الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت. متفق عليه.
قال النووي: معناه: أن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه والفتنة أكثر، لتمكنه من الوصول إلى المرأة، والخلوة من غير أن ينكر عليه، بخلاف الأجنبي، والمراد بالحمو هنا: أقارب الزوج غير ـ آبائه وأبنائه ـ كالأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم ـ وعادة الناس المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه، فهذا هو الموت، وهو أولى بالمنع من الأجنبي، لما ذكرناه. هـ.
ولا يخفى أن الوضع المذكور لهاتين الأسرتين لا يخلو من هذا المحظور، فكل من الشخصين المذكورين حمو بالنسبة لزوجة الآخر.
وضيق المنزل الذي يسكنونه مظنة لكثير من المحاذير الشرعية ـ كالخلوة والاختلاط المريب، ووقوع النظر على ما لا تؤمن عاقبته، وسماع ما يسوء الأذن.
وما كان كذلك لا تبيحه الشريعة الغراء التي جاءت بجلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وسد الذرائع إليها، ولاسيما في الكليات الخمس التي اتفقت الشرائع السماوية على صيانتها ورعايتها، وهي: الدين والنفس، والعرض، أو النسل، والعقل، والمال.
قال الشاطبي في الموافقات: اتفقت الأمة ـ بل سائر الملل ـ على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد. هـ.
وراجع للفائدة في ذلك الفتوى رقم: 49522.
ومن أجل ذلك جاءت الشريعة بالضوابط والأحكام التي تحقق هذه المقاصد، ومما جاءت به لصيانة الدين والعرض: أنها أمرت بغض البصر، ونهت عن الدخول على النساء على وجه الخلوة بهن، بل وعن الاختلاط بهن بقدر المستطاع، وبذلك ثبتت السنة المباركة، وسنضرب لذلك مثلا يتضح به هذا المقصد الشرعي، من الحيلولة بين المسلم والوقوع في ما حرم الله.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن للنساء بالخروج للمساجد، لم يكتف صلى الله عليه وسلم بالآداب العامة ـ كالحجاب وغض البصر والنهي عن التطيب ونحو ذلك ـ بل زاد على ذلك ما يدفع به اختلاطهن بالرجال ما وجد إلى ذلك سبيلا، فشرع صلى الله عليه وسلم لهن آدابا تراعى في الطريق إلى المسجد، وأخرى عند دخوله، وثالثة حال التواجد فيه وأثناء الصلاة، ورابعة في كيفية الانصراف منه.
فمن الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات مرة فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق ـ أي السير وسطه ـ عليكن بحافات الطريق. فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
فانظر ـ رحمك الله ـ إلى الهدي النبوي في الزجر عن الاختلاط بين النساء والرجال حتى على أبواب المساجد، واللقاء عارض طارئ، لا يتكرر بالظروف نفسها والملابسات ذاتها، مع أشخاص بأعينهم، فكيف لو كان هذا الاختلاط مستمرا مع شخص بعينه؟ مما يتيح أقرب السبل لنفث الشر في الصدور.
ومن الثاني: ما رواه نافع عن ابن عمر مرفوعا: لو تركنا هذا الباب للنساء. قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. رواه أبو داود، وصححه الألباني.
قال العظيم آبادي: لئلا تختلط النساء بالرجال في الدخول والخروج من المسجد، والحديث فيه دليل أن النساء لا يختلطن في المساجد مع الرجال بل يعتزلن في جانب المسجد ويصلين هناك بالاقتداء مع الإمام. هـ.
ومن الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها. رواه مسلم.
قال النووي: فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك. هـ.
ومن الرابع: ما روته أم سلمة: أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال. رواه البخاري.
قال الطيبي وتبعه أبو الحسن المباركفوري: أي قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه بعد قيامهن ليتبعه الرجال في ذلك حتى تنصرف النساء إلى البيوت، فلا يقع اجتماع الطائفتين في الطريق، ويحصل الأمن من الفتنة باختلاط الرجال بالنساء في الطريق. هـ.
وقال ابن بطال: وذلك ـ والله أعلم ـ خشية الفتنة بهن، واشتغال النفوس بما جبلت عليه من أمورهن عن الخشوع فى الصلاة والإقبال عليها وإخلاص الفكر فيها لله، إذ النساء مزينات في القلوب ومقدمات على جميع الشهوات، وهذا أصل في قطع الذرائع. هـ.
وإذا تقرر هذا، وجب انفصال كل شخص بأسرته في منزل مستقل، خاصة وقد ذكر السائل الكريم أن إيجار السكن في هذه المدينة في متناول اليد.
والله أعلم.