الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فليس بصحيح أن التفسير الذي نقله السائل مروي عن أكثر الصحابة، بل لا يصح ذلك عن أحد منهم، بل ولا يصح عن أحد من التابعين في ما قيل إلا عن مجاهد، كما ذكر ذلك الشوكاني في (فتح القدير) قال: ...وقيل لا يصح هذا (أي التفسير المذكور) إلا من مجاهد وحده. انتهى.
وإنما معنى الآية هو الرؤية التي ينكرها المعتزلة ومن وافقهم.
قال الإمام ابن كثير: { إلى ربها ناظرة } أي: تراه عيانا، كما رواه البخاري، رحمه الله، في صحيحه: "إنكم سترون ربكم عيانا".
وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها ... ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مواضع من هذا التفسير، وبالله التوفيق. وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام. ومن تأول ذلك بأن المراد بـ { إلى } مفرد الآلاء، وهي النعم، كما قال الثوري عن منصور عن مجاهد: { إلى ربها ناظرة } فقال: تنتظر الثواب من ربها. رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد. وكذا قال أبو صالح أيضا - فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه.
وأين هو من قوله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } قال الشافعي رحمه الله: ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل. ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة، وهي قوله: { إلى ربها ناظرة }. اهـ.
وقال ابن عبد البر في (التمهيد): قول مجاهد هذا مردود بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقاويل الصحابة وجمهور السلف، وهو قول عند أهل السنة مهجور، والذي عليه جماعتهم ما ثبت في ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وليس من العلماء أحد إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجاهد وإن كان أحد المقدمين في العلم بتأويل القرآن فإن له قولين في تأويله اثنين هما مهجوران عند العلماء مرغوب عنهما، أحدهما هذا، والآخر قوله في قول الله عز وجل (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) .. قال: يوسع له على العرش فيجلسه معه. وهذا قول مخالف للجماعة من الصحابة ومن بعدهم، فالذي عليه العلماء في تأويل هذه الآية أن المقام المحمود الشفاعة. اهـ.
وقال ابن حجر في (فتح الباري): قال البيهقي: وجه الدليل من الآية أن لفظ " ناضرة " الأول بالضاد المعجمة الساقطة من النضرة بمعنى السرور، ولفظ " ناظرة " بالظاء المعجمة المشالة يحتمل في كلام العرب أربعة أشياء: نظر التفكر والاعتبار، كقوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)، ونظر الانتظار كقوله تعالى (ما ينظرون إلا صيحة واحدة)، ونظر التعطف والرحمة كقوله تعالى (لا ينظر الله إليهم)، ونظر الرؤية كقوله تعالى (ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت)، والثلاثة الأول غير مرادة، أما الأول فلأن الآخرة ليست بدار استدلال، وأما الثاني فلأن في الانتظار تنغيصا وتكديرا والآية خرجت مخرج الامتنان والبشارة، وأهل الجنة لا ينتظرون شيئا لأنه مهما خطر لهم أتوا به، وأما الثالث فلا يجوز لأن المخلوق لا يتعطف على خالقه، فلم يبق إلا نظر الرؤية، وانضم إلى ذلك أن النظر إذا ذكر مع الوجه انصرف للعينين اللتين في الوجه؛ ولأنه هو الذي يتعدى بإلى كقوله تعالى (ينظرون إليك). وإذا ثبت أن "ناظرة" هنا بمعنى رائية اندفع قول من زعم أن المعنى ناظرة إلى ثواب ربها؛ لأن الأصل عدم التقدير. وأيد منطوق الآية في حق المؤمنين بمفهوم الآية الأخرى في حق الكافرين (إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) وقيدها بالقيامة في الآيتين إشارة إلى أن الرؤية تحصل للمؤمنين في الآخرة دون الدنيا. انتهى ملخصا موضحا.
وقد أخرج أبو العباس السراج في تاريخه عن الحسن بن عبد العزيز الجروي وهو من شيوخ البخاري: سمعت عمرو بن أبي سلمة يقول: سمعت مالك بن أنس وقيل: له يا أبا عبد الله؛ قول الله تعالى ( إلى ربها ناظرة ) يقول قوم: إلى ثوابه؟ فقال: كذبوا؛ فأين هم عن قوله تعالى ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ). اهـ.
والله أعلم.