الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فينبغي للمسلم أن يتحرى في طعامه الطيب الحلال، فقد قال تعالى:
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم. {المؤمنون: 51}. وقال تعالى: كلوا من طيبات ما رزقناكم. {البقرة: 57}.
وقال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين . رواه مسلم.
والأصل في المطعومات غير الذبائح حلها وجواز أكلها ما لم يعلم الشخص أن في مكوناتها شيئا محرما، فيحرم عليه أكله، وما شك فيه فالورع تركه والابتعاد عنه، فما صنع من لحوم الغنم والبقر ونحوها فلا حرج في استعماله إذا كان مذكى ولم يدخل في تصنيعه شيء من المواد المحرمة ـ كلحم الخنزير، أو شحمه، أو الدم المسفوح ونحوه ـ وقد بينا شروط وضوابط جواز استعمال منتجات أهل الكتاب وذبائحهم وغيرها في الفتوى رقم: 2437
وإذا ظن أن من بين مكوناتها مواد محرمة، كأن تكون من حيوانات غير مذكاة، أو من خنزير فيحرم حينئذ شراؤها وأكلها، فقد قال الله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق. {المائدة: 121}.
والأصل في الذبائح الحرمة، كما قال ابن القيم.
فهذه المواد إن كانت مأخوذة من حيوان حلال بعد ذكاته فلا إشكال في جوازها، وإذا ظن أن الأجبان قد استعملت في تصنيعها مادة محرمة من الخنزير، أو مما لم يذك فإنه لا يجوز استعمالها، لأنه بامتزاج تلك المادة النجسة بها تصير نجسة، ومحل هذا إن لم تكن تلك المواد قد استحالت قبل إضافتها إلى المواد الغذائية استحالة تامة.
وإن كانت قد استحالت قبل إضافتها فقد قال كثير من أهل العلم بحليتها وهو مذهب الأحناف والظاهرية والمالكية في المشهور، وقالوا: إن الشرع رتب وصف النجاسة على حقيقة، والحقيقة تنتفي بانتفاء بعض أجزاء مفهومها فكيف إذا انتفت أجزاؤها بالكلية، وصوب هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، بل قال شيخ الإسلام: إن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم لا لفظا ولا معنى، فليست محرمة، ولا في معنى المحرم فلا وجه لتحريمها، بل الذي يتناولها نصوص الحل، فالنص والقياس يقتضي تحليلها.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: ومن الممتنع بقاء الخبيث وقد زال اسمه ووصفه، والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجودا وعدما، فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا تتناول الزروع والثمار والرماد والملح والتراب والخل لا لفظا ولا معنى ولا نصا ولا قياسا. اهـ.
وقال الشافعية والحنابلة وبعض المالكية: إنها باقية على حكمها ولو استحالت.
وأما إذا لم تحصل معالجتها، أو حصلت، لكنها لم تحولها إلى مادة أخرى فإنها تبقى على أصلها، وهو النجاسة وحرمة الاستعمال، لأنه بامتزاج تلك المادة النجسة بها صارت نجسة، لأن كل مائع غير الماء الطهور يتنجس بمجرد ملاقاة النجاسة.
أما إذا كانت مجهولة الحال، أو المصدر، فالظاهر أنها مباحة، لعموم البلوى وجهالة الأصل، ولأن أغلب هذه المواد المصنعة تكون قد جرى عليها معالجة حتى تتحول عن أصلها، ولكن الأولى تركها والابتعاد عنها والاستغناء عنها بما لا يشك فيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي وأحمد، وصححه الألباني.
والقاعدة أن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب، وذكر السيوطي في الأشباه والنظائر قاعدة: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام ـ وذكر من فروعها: لو اشتبه مذكى بميتة، أو لبن بقر بلبن أتان، أو ماء وبول لم يجز تناول شيء منها ولا بالاجتهاد. انتهـى.
وقال ابن قدامة في روضة الناظر: وإذا اختلطت أخته بأجنبية، أو ميتة بمذكاة حرمنا الميتة بعلة الموت، والأخرى بعلة الاشتباه. انتهـى.
وننبه أخيرا إلى أنه عند الاشتباه في حرمة طعام ما يكون السؤال عن مصدره مشروعا، ويتأكد كلما زاد الشك لأنه من الاستبراء للدين، ولا يجب البحث الدقيق جدا عن مكونات الأطعمة، وحسب الإنسان ما كتب عليها والتحرز من المشكوك فيه كما سبق، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 6861، 117865، 110687، وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.