الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد أحسنت في مساعدتك لصديقك في الانتقال لبلاد المسلمين ونبشرك بما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما : أن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه , ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته , ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة , ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة .
ويتعين على الأخ أن يحرص على الكسب الحلال , والبعد عن الحرام مهما كانت الأحوال ؛ ففي الحديث : إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها , فاتقوا الله وأجملوا في الطلب , ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله , فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته . رواه أبو نعيم والطبراني والبزار وصححه الألباني .
وأما عن عمله المذكور فإن كان لا يعمل في بيع الخمر وليس مجال عمله في القاعة التي يباع بها الخمر ولا يعين على هذه المعصية فعمله جائز على الراجح , وذهب بعضهم للكراهة , وسبب ذلك هو أن مال المحل الذي يعمل به قد اختلط فيه الحلال والحرام , ولكن الراجح أن اختلاط المال والشك في مال الشخص هل هو من حلال أم من حرام ؟ لا يجعل التعامل معه حراما , مالم يعلم أن عين مرتبه الشهري حاصل من الحرام , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع اليهود في المدينة وهم أكلة السحت , ومات ودرعه مرهونة عند يهودي , وأجاب دعوة يهودي دعاه على خبز شعير وإهالة سنخة .
فقد أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير .
وفي الحديث : أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها . رواه مسلم .
وفي الحديث : أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه . رواه أحمد . وقال الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم .
ووجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم استجاب لدعوة اليهودي , واليهود كانوا يتعاملون بالربا ولا يتورعون عن أخذ المال الحرام .
وكان الصحابة في عصره وبعده يتعاملون مع اليهود , فقد روى الطبراني في الأوسط عن كعب بن عجرة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متغيرا , فقلت : بأبي أنت مالي أراك متغيرا ؟ قال : ما دخل في جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث ! قال : فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلا له , فسقيت له على كل دلو بتمرة فجمعت تمرا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من أين لك يا كعب ؟ فأخبرته ... . والحديث حسنه الألباني في صحيح الترغيب .
وقال ابن العربي في أحكام القرآن : الصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحامهم ما حرم الله سبحانه عليهم , فقد قام الدليل على ذلك قرآنا وسنة . قال الله تعالى : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم" (المائدة :5) . إلى أن قال : والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأئمة على جواز التجارة مع أهل الحرب , وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرا انتهى . وأما إن كان العمل في مجال تقديم الخمر أو ما يتعلق به فهو محرم ففي سنن أبي داود وغيرها عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لعن الله الخمر وشاربها , وساقيها , وبائعها ومبتاعها , وعاصرها ,ومعتصرها ,وحاملها , والمحمولة إليه . وراجع للأهمية الفتوى رقم : 9512, والفتوى رقم : 36903,والفتوى رقم : 40464.
وإذا كان محرما , فلا يجوز الاستمرار في العمل فيه إلا إذا لم يجد المرء عملا مباحا يكفيه ومن يعول , أو لم يكن عنده من المال ما يسد حاجته وحاجة من يعول , فلا مانع حينئذ من البقاء في هذا العمل للضرورة بشرط البحث الجاد عن عمل غيره , علما بأن الضرورة لها ضوابط وحدود لا يجوز الخروج عنها , ولعل ما ذكرت من توفير الحياة الكريمة لا يدخل في حدود الضرورة التي تبيح لك ما ذكرنا , وراجع في هذا الفتوى رقم : 60523, والقتوى رقم : 22169, والفتوى رقم : 62362.
أما حكم المال الذي يتقاضاه من عمله فيجوز أن تقترض منه وأن تقبل الهدية للأولاد وذلك لما قدمناه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من طعام اليهودي الذي دعاه إلى خبز وإهالة سنخة ومات ودرعه مرهونة عند يهودي ومن المعلوم أن اليهود كما وصفهم الله : " أكالون للسحت " (المائدة : 42) .
وللمزيد من الفائدة يمكنك مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية : 6880,7707,23264,107223 .
والله أعلم .