السؤال
لاحظت في فتاويكم أنكم ترجحون صحة صلاة الجماعة خارج المسجد، وعدم تعيين المسجد لها. فعلى أي أساس؟ هلا أوردتم لي ردكم على قول ابن القيم (ومن تأمل السنة حق التأمل ..إلخ). أرجو الرد على كل دليل استدل به مخالفكم في هذه النقطة ؟
لاحظت في فتاويكم أنكم ترجحون صحة صلاة الجماعة خارج المسجد، وعدم تعيين المسجد لها. فعلى أي أساس؟ هلا أوردتم لي ردكم على قول ابن القيم (ومن تأمل السنة حق التأمل ..إلخ). أرجو الرد على كل دليل استدل به مخالفكم في هذه النقطة ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما صحة صلاة الجماعة في غير المسجد فأمر لا شك فيه، وإذا كان من صلى منفردا تصح صلاته مع الإثم عند جل من أوجب الجماعة، فأولى أن تصح صلاة من صلى جماعة في غير المسجد.
وأما وجوب فعل الجماعة في المسجد فهذه المسألة من مواطن النزاع، والخلاف فيها قوي، والذي نقوله إن أكثر الموجبين للجماعة لم يوجبوا فعلها في المسجد، وأوجب ذلك بعض الحنابلة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
ومن حجة من أوجب فعلها في المسجد: هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت من تخلف عنها، وحديث الأعمى وقوله له : فأجب فإني لا أجد لك رخصة، وحديث: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.
ومن حجة من لم يوجب فعلها في المسجد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته بأصحابه جماعة حين كان شاكيا، فإنها لو كانت واجبة في المسجد لما أذن لهم في الصلاة خلفه في بيته، أو لأمرهم بإعادة الصلاة في المسجد. قال ابن رجب في فوائد هذا الحديث وفيه : أن المريض يصلي بمن دخل عليه للعيادة جماعة ؛ لتحصيل فضل الجماعة . وقد يستدل بذلك على أن شهود المسجد للجماعة غير واجب على الأعيان , كما هو رواية عن أحمد ؛ فإنه لم يأمرهم بإعادة صلاتهم في المسجد , بل اكتفى منهم بصلاتهم معه في مشربته . انتهى .
وكذا حديث الرجلين اللذين صليا في رحالهما ولم ينكر عليهما، وإنما أمرهما بإعادة الصلاة مع الجماعة إذا أتيا المسجد، وحديث: وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا.
ويتأول همه صلى الله عليه وسلم بتحريق المتخلفين عنها بأنهم كانوا جماعة من المنافقين هذه صفتهم كما يدل عليه سياق الحديث. وهذا الوجه هو الذي رجحه ابن حجر.
ويجاب عن حديث الأعمى بأنه لا رخصة له في التخلف مع تحصيل الفضيلة، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعتبان بن مالك حين أنكر بصره أن يصلي في بيته جماعة بخلاف ابن أم مكتوم فإنه كان يصلي في بيته منفردا، ومن ثم لم يرخص له.
قال ابن رجب رحمه الله ما مختصره : وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أنه لا يجد لابن لأم مكتوم رخصة في حصول فضيلة الجماعة مع تخلفه وصلاته في بيته. واستدل بعض من نصر ذلك وهو البيهقي بما خرجه في سننه من طريق أبي شهاب الحناط وعن العلاء بن المسيب عن أبيه عن ابن أم مكتوم قال : قلت : يا رسول الله، إن لي قائدا لا يلائمني في هاتين الصلاتين ؟ قال : أي الصلاتين ؟ قلت : العشاء والصبح . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو يعلم القاعد عنهما ما فيهما لأتاهما ولو حبوا. وقد يستدل بحديث عتبان على أن الجماعة في البيت تكفي من حضور المسجد خصوصا للأعذار .
ويحتمل أن يكون عتبان جعل موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم : من بيته مسجدا يؤذن فيه ويقيم ويصلي بجماعة أهل داره ومن قرب منه، فتكون صلاته حينئذ في مسجد : إما مسجد جماعة , أو مسجد بيت يجمع فيه، وأما ابن أم مكتوم فإنه استأذن في صلاته في بيته منفردا فلم يأذن له. وهذا أقرب ما جمع به بين الحديثين . انتهى .
وأما حديث لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فضعيف. قال ابن قدامة في المغني : فصل : ويجوز فعلها في البيت والصحراء. وقيل فيه رواية أخرى أن حضور المسجد واجب إذا كان قريبا منه أنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد .
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : جعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان . متفق عليه . وقالت عائشة رضي الله عنها : صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا . رواه البخاري. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الجماعة فصليا معهم تكن لكما نافلة. وقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. لا نعرفه إلا من قول علي نفسه. كذلك رواه سعيد في سننه، والظاهر أنه إنما أراد الجماعة وعبر بالمسجد عن الجماعة، لأنه محلها، ومعناه لا صلاة لجار المسجد إلا مع الجماعة . وقيل أراد به الكمال والفضيلة فإن الأخبار الصحيحة دالة على أن الصلاة في غير المسجد صحيحة جائزة . انتهى .
وقد قال البيهقي في سننه: باب من جمع في بيته. وذكر فيه حديث أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، فربما تحضره الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح ثم يقوم فنقوم خلفه فيصلى بنا قال : وكان بساطهم من جريد النخل. رواه مسلم . وعن أنس عن أم الفضل بنت الحارث قالت : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه في بيته المغرب في ثوب واحد متوشحا به قرأ والمرسلات، ما صلى بعدها صلاة حتى قبض . وعن إبراهيم عن الأسود وعلقمة قالا: أتينا عبدالله في داره قال : صلى هؤلاء خلفكم قلنا : لا . فقال : قوموا فصلوا. وذكر الحديث في صلاته بهما.
قال البيهقي : وسنروي إن شاء الله تعالى حديث: ولا يؤم الرجل في بيته إلا بإذنه . ثم ذكر حديث أبي نضرة : أن أبا سعيد مولى الأنصار أو مملوكا دعا أبا ذر فقال أبو ذر : أكذلك يا ابن مسعود أو أبا عبدالرحمن قال نعم فتأخر قالا سليمان يعني إن الرجل أحق ببيته . وعن حبيب بن أبي ثابت : أنه صنع طعاما فدعا إبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي وسلمة بن كهيل وذرا واناسا من وجوه القراء فأمر إبراهيم التيمي فقص عليهم ثم حضرت الصلاة فصلوا في البيوت في جماعة ولم يخرجوا إلى المسجد ثم جاءهم بالطعام . انتهى ما ذكره البيهقي من الآثار محذوف الأسانيد .
وثمت آثار أخرى في الباب. وفي ما مضى كفاية في بيان إجزاء الجماعة في كل مكان وعدم تعين المسجد لفعلها، ومع هذا فإن القول بوجوبها في المسجد قول قوي، وهو أحوط وأبرأ للذمة فضلا عما في إتيان المساجد من الفضيلة العظيمة، فلا ينبغي للحريص على دينه أن يتساهل في هذا الأمر .
والله أعلم..