الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنه لا فرق بين الجد والمزح في السب والقذف والغيبة وغيرها من المحرمات، والأمور المتعلقة بحقوق الله تعالى، وكذا في الزواج والطلاق والعتق والرجعة عند الجمهور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاث هزلهن جد وجدهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة. رواه الترمذي.
قال الخطابي: اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان الإنسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذ به، ولا ينفعه أن يقول: كنت لاعبا أو هازلا أو لم أنوه طلاقا.. أو ما أشبه ذلك من الأمور. اهـ
وفصل بعض العلماء في البيوع وما أشبهها فذكر أنها لا تلزم بالهزل جاء في أحكام القرآن لابن العربي - (4 / 353) عند قوله تعالى: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون {التوبة:65} قال رحمه الله: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا ، وهو كيفما كان كفر ؛ فإن الهزل بالكفر كفر ، لا خلف فيه بين الأمة ، فإن التحقيق أخو الحق والعلم ، والهزل أخو الباطل والجهل
قال علماؤنا : نظروا إلى قوله : { أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } .
فإن كان الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق فقد اختلف الناس في ذلك على أقاويل ، جماعها ثلاثة : الفرق بين البيع وغيره .
الثاني : لا يلزم الهزل .
الثالث : أنه يلزم .
فقال في كتاب محمد : يلزم نكاح الهازل .
وقال أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية : لا يلزم .
وقال علي بن زياد : يفسخ قبل وبعد .
وللشافعي في بيع الهازل قولان ؛ وكذلك يتخرج من قول علمائنا فيه القولان .
قال متأخرو أصحابنا : إن اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم ، وإن اختلفا غلب الجد الهزل .
قال الإمام ابن العربي : فأما الطلاق فيلزم هزله ، وكذلك العتق ؛ لأنه من جنس واحد يتعلق بالتحريم والقربة ، فيغلب اللزوم فيه على الإسقاط .اهـ
و جاء في إعلام الموقعين لابن القيم: الكلام محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق لاسيما الأحكام الشرعية التي علق الشارع بها أحكامها، فإن المتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني، فإن لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها أو قاصدا لغيرها أبطل الشارع عليه قصده فإن كان هازلا أو لاعبا لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعنى كمن هزل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة....
والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته بخلاف المستهزئ والهازل فإنه يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلا لأنه قاصد للتكلم باللفظ وهزله لا يكون عذرا له بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل والهزل لم يجعله الله ورسوله عذرا صارفا بل صاحبه احق بالعقوبة، ألا ترى ان الله تعالى عذر المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالايمان ولم يعذر الهازل بل قال ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم، وكذلك رفع المؤاخذة على المخطئ والناسي ... انتهى.
وفي الفتاوى الكبرى
لابن تيمية - (6 / 63):