السؤال
ما حكم قولي للمخالف المحتسب عليه: خلاص أنت أبخص وأعرف، أو افعل مابدا لك ـ وقصدي من ذلك إنهاء الحوار والجدال العقيم لا إقراره على ذلك، فهل يؤاخذني الله على ذلك؟ وهل يجوز لي تبني وجهة نظر المخالف لإظهار عواره كما قال إبراهيم حينما رأى الكوكب والشمس والقمر ـ هذا ربي ـ ثم قال: إني وجهت وجهي الآية؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن في السؤال بعض العبارات التي لم تتضح لنا، ولكن الجدال المحمود ـ وهو الذي يكون لتبيين الحق وإظهاره ودحض الباطل وإسقاطه بالأسلوب الحسن ـ أمر به الشرع وفعله العلماء قديما وحديثا، وقد ثبت بالأدلة الصحيحة بيان كون الجدال بالتي هي أحسن من أساليب الدعوة التي قد يحتاج إليها في كثير من الأحيان وعلى من يستطيع القيام بها أن يعملها, فقد قال الله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن {النحل:125}.
وقال: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن {العنكبوت:46}.
وقد فعله الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كابن عباس - رضي الله عنهما - لما جادل الخوارج والحرورية ورجع منهم خلق كثير، والأصل عدم ترك الجدال المذكور، لأن في هذا هزيمة للحق إلا إذا أصر الخصم على المكابرة والخروج عن الحوار في المناقش فيه إلى المشاتمة فلك ترك الحوار ما لم تخش من تأثر بعض الحاضرين بقوله وإلا فأوقفهم على نقاط تعثره وخطئه وأوقف الجدل معه، كما قال ابن الجوزي في كتابه الإيضاح: أول ما تجب البداءة به: حسن القصد في إظهار الحق طلبا لما عند الله تعالى, فإن آنس من نفسه الحيد عن الغرض الصحيح فليكلفها بجهده, فإن ملكها, وإلا فليترك المناظرة في ذلك المجلس, وليتق السباب والمنافرة فإنهما يضعان القدر, ويكسبان الوزر, وإن زل خصمه فليوفقه على زلـله, غير مخجل له بالتشنيع عليه, فإن أصر أمسك, إلا أن يكون ذلك الزلل مما يحاذر استقراره عند السامعين, فينبههم على الصواب فيه بألطف الوجوه جمعا بين المصلحتين. اهـ.
وأما التدرج مع الخصم بتبني فكرته ظاهرا بقصد إبطالها فلا حرج فيه كما فعل إبراهيم على أحد الأقوال في تفسير الآية، وأما تبنيها حقيقة فهو غير مشروع، فقد جاء في الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي نقلا عن العز بن عبد السلام أنه قال: ثبت بالأدلة الظاهرة أنه لا يجوز أن إبراهيم قال على سبيل الجزم هذا ربي، وإذا بطل هذا فتلك المناظرة إما أن تكون بعد البلوغ وحينئذ فقوله هذا ربي إخبارا، بل حكاية لمعتقدهم حتى يرجعوا إليه فيبطله بقوله لا أحب الآفلين، كما تقول في البحث مع الفلاسفة القائلين بقدم الأجسام الجسم قديم فلم نشاهده مركبا متغيرا ويؤيد ذلك قوله تعالى: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم {الأنعام} ـ أو هذا ربي في زعمكم فلما غاب قال لو كان إلها لما غاب، أو هذا يرجع لما قبله خلافا لمن غاير بينهما، أو أنه استفهام إنكاري بحذف أداته لدلالة السياق عليه على حد: أفإن مت فهم الخالدون {الأنبياء} ـ أي فهم الخالدون على أحد الأقوال، أو بتقدير القول أي يقولون هذا ربي أي الذي يربيني وإضماره كثير، ومنه: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا {البقرة:127} ـ أو ذكره استهزاء كما يقال لذليل ساد قوما هذا سيدكم، أو قاله خداعا لهم ليوهمهم أنه معظم لما عظموه حتى يلقوا إليه مقاليد عقولهم ويقبلوا ما صدر عنه فلما أفل أراهم نقص النجوم وأنها لا تصلح للألوهيه، ولا محذور في إيهام ذلك التعظيم لأنها مصلحة عامة من غير حصول محذور لما تقرر من أن قوله هذا ربي محتمل لعدة أمور على أن التلفظ بكلمة الكفر إذا جاز للإكراه فلأن يجوز إذا استعقب في ظن القائل هداية أقوام إلى الله بطريق الأولى. اهـ.
والله أعلم.