السؤال
أموري دائما معسرة وفي كل الأمور رغم أنني صافية النية ودائمة الدعاء وأصبحت أشعر بالضيق بشعوري من هذا العسر الشديد الذي لا يزول لا بالدعاء ولا بالأعمال الصالحة ولا بالصبر وأصبحت خائفة ويائسة من أن لا يتغير شيء، وسؤالى: لماذا الله يعسر الأمور ويضيق على بعض عباده ضيقا شديدا لدرجة يصبح العبد غير قادر على عمل أي شيء؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالعجب كل العجب من ذلك الإنسان الذي تغمره نعم الله من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، فهو يتقلب في نعمه ليل نهار، ولله عليه في كل نفس وكل طرفة عين نعمة لا يقدر قدرها ولا يستطاع شكرها ثم هو مع ذلك يتسخط أقدار الله تعالى ويحمله تعسير بعض أموره وعدم حصول بعض ما يرجوه على اليأس والقنوط والاعتراض على أقضية الحكيم الخبير، وهذا الإنسان الذي هذه صفته هو الذي وصفه الله بقوله: إن الإنسان لربه لكنود، والكنود هو الكفور الجحود كما قاله جمع من السلف، ونقل ابن كثير عن الحسن قوله: الكنود: هو الذي يعد المصائب وينسى نعم الله عليه.
ثم اعلمي ـ أيتها الأخت السائلة ـ أن الله تعالى على صراط مستقيم فجميع أحكامه الشرعية والكونية هي العدل والحكمة والمصلحة، يقول ابن القيم ـ رحمه الله: وهو سبحانه له الملك وله الحمد وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل، فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه ولا ينقصه من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة، فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله. انتهى.
فإذا علمت هذا المعنى واستقر في نفسك وعلمت مع هذا أن الله تعالى رحيم بعباده لطيف بهم، وهو سبحانه كما أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أرحم بعبده من الأم بولدها، وهو سبحانه لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، فإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، فإذا استقرت هذه المعاني في نفسك لم تتسخطي ما قدره الله وقضاه، بل علمت أن ذلك هو المصلحة لك وإن كرهته نفسك فثقي بتدبير الله وحسن اختياره لعبده، واعلمي أن اختيار الله للعبد خير من اختيار العبد لنفسه، وقد يكون الله يبتليك ليسمع دعاءك وضراعتك ولتلحي في المسألة فيحصل لك من جراء ذلك الخير العظيم في الدنيا والآخرة، وقد يكون تعالى يبتليك ليطهرك من بعض الذنوب فيكون ذلك كفارة لك، وقد تكون أمورك إنما تتعسر لتقصيرك في طاعة الله تعالى وإن ظننت أنك غير مقصرة في ذلك، وقد قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير {الشورى:30}.
وقد تكون المصلحة لك إنما هي في تعسير هذه الأمور وعدم إنجاحها فإن العبد لقصور عقله لا يدري ما ينفعه مما يضره وليس أسلم له من التفويض لله والتسليم لحكمه، واعتبري ذلك بأمر الرزق، فإن الناس يظنون أن من بسط له الله في الرزق فقد أكرمه بذلك ومن ضيق عليه فقد أهانه بذلك، وقد رد الله على الناس هذا الحسبان وذلك الظن، فقال جل اسمه: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن*وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن{الفجر:16،15}.
يقول ابن القيم عليه الرحمة: ولا تظن أن عطاءه كل ما أعطى لكرامة عبده عليه ولا منعه كل ما يمنعه لهوان عبده عليه، ولكن عطاؤه ومنعه ابتلاء وامتحان يمتحن بهما عباده، قال الله تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا ـ أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته وما ذاك لكرامته علي، ولكنه ابتلاء وامتحان له أيشكرني فأعطيه فوق ذلك؟ أم يكفرني فأسلبه إياه وأخول فيه غيره؟ وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذلك من هوانه، ولكنه ابتلاء وامتحان مني له أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق أم يتسخط فيكون حظه السخط، فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة فقال: لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي ولم أبتله بالفقر لهوانه علي ـ فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لإهانته، إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته فله الحمد على هذا وعلى هذا وهو الغني الحميد. انتهى.
وعسى أن يكون في هذا القدر كفاية لك ومقنع يحملك على التسليم لحكم الله والرضا بما يقدره ويقضيه والصبر على ما تلقين من مصاعب.
والله أعلم.