الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقديما قال العلماء كعبد الله بن المبارك ـ رحمه الله: إن الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
وقد علمنا القرآن منهج التحري في التلقي، حيث يقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين {الحجرات:6}.
فالأخبار عندنا لا تصلح للاستدلال حتى تثبت ويقبل إسنادها، هذا في ما له إسناد، وأما ما كان غير مسند أصلا فهو كالعدم في البناء عليها، فإن خالف مع ذلك صريح المعقول وصحيح المنقول كان هزءا من القول، وسخفا من الباطل، لا يتناقله ـ فضلا عن الاعتماد عليه ـ إلا من سفه نفسه، وفقد رشده، ثم بعد ذلك يكون من المضحكات المبكيات أن يكذب المرء عمدا ويختلق الفرى ثم يذهب يحتج به، وهو أعلم الناس بكذب نفسه وافترائه!! وهذه حال كثير من الناس وللأسف، عندما لا يجدون حجة على باطلهم، فيذهبون في الكذب كل مذهب، دون استحياء من الله، ولا من أنفسهم، ولا من الناس، لعلمهم أن قيمتهم صفر على أية حال، فما الذي يخسرونه بكذبهم وافترائهم؟ وما لجرح بميت إيلام، نقول هذا بين يدي الحقيقة الناصعة، فإن إشكال السائل الكريم مبني على خرافة اختلقها من لا خلاق له ولا خلق، تزييفا للحق وإهدارا للعقل، وذلك بالتبجح بأن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم بناءه بعائشة ـ رضي الله عنها ـ إلى بلوغها سن التاسعة، كان بناء على رغبة أبيها أبي بكر بما يفهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه أراد الدخول بها مع العقد عليها، ولكن منعه من ذلك أبوها حتى تبلغ هذه السن، وجواب ذلك لا يحتاج إلى كبير عناء، أو استقصاء، فهذا كذب صراح، لم تأت به رواية، ولا تدل عليه دراية، ولا يقوله إلا أفاك مبين لا يعلم من هو النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من هو أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ
والذي يقطع به أن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم لبنائه بعائشة كان بعزمه وترتيبه واختياره ورغبته ومراعاته للحال، فإنه صلى الله عليه وسلم لو أراد الدخول بها قبل ذلك لما امتنع أبو بكر ولا غيره، ليقينهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بمصالحهم وأرعى لها من أنفسهم، وهنا نورد للسائل الكريم ما روي في شأن أبي بكر حين خطبت ابنته عائشة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما توفيت السيدة خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا، قال: فمن البكر؟ قالت: ابنة أحب خلق الله عز وجل إليك عائشة بنت أبي بكر، قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة ابنة زمعة قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول قال: فاذهبي فاذكريهما علي، فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عز وجل عليكم من الخير والبركة ؟! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقالت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح له إنما هي ابنة أخيه ؟ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، قال: ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي، فرجعت فذكرت ذلك له، فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته فزوجها إياه، وعائشة يومئذ بنت ست سنين. رواه أحمد، وعزاه الحافظ ابن حجر في الفتح لأحمد والطبراني بإسناد حسن، وقال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث. اهـ.
وأصل هذا المعنى ثابت عند البخاري في صحيحه عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال: أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال.
قال العيني في عمدة القاري: كأن أبا بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ اعتقد أنه لا يحل له أن يتزوج ابنته للمؤاخاة والخلة التي كانت بينهما، فأعلمه أن أخوة الإسلام ليست كأخوة النسب والولادة. اهـ.
وذكر ذلك قبله ابن بطال في شرح البخاري.
فإن كان لا بد من إثبات تحفظ من أبي بكر على هذه الزيجة فإنما هو السؤال عن صلاحية عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بصلاحيتها له زوجه منها، وكذلك الحال عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلاحيتها للبناء بها، أتى إلى بيت أبي بكر ودخل على عائشة في بيت أبيها، كما في بقية الحديث السابق عند أحمد، وفيه: قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين ترجح بي فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من ماء ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي ثم دخلت بي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار فأجلستني في حجره ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا، وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
وأصل هذا ثابت أيضا في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج فوعكت فتمرق شعري فوفى جميمة فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
وهذا يدل بظاهره على أن اختيار وقت الزفاف كان من النبي صلى الله عليه وسلم بمحض رغبته، وأنه لا دخل لأبي بكر في تعيينه، وعلى ذلك يكون تأخير البناء عن العقد كان متعمدا من النبي صلى الله عليه وسلم ومبيتا من البداية، وذلك مراعاة لحال عائشة وسنها وطاقتها.
والله أعلم.