الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبداية ننبه الأخ السائل على أن قوله: (من وافقهم في الظاهر لغير الإكراه كالخوف أو مجاملتهم فهو كافر) ليس على إطلاقه، بل هذا إنما يكون في موافقتهم في الكفر، كسب الله تعالى أو سب دينه أو سب نبيه صلى الله عليه وسلم، أو الطعن في القرآن، ونحو ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصارم المسلول): من قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدا لها عالما بأنها كلمة كفر، فإنه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا اهـ.
وقال أيضا كما في (مجموع فتاويه): التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه اهـ.
فالموافقة التي يحكم بكفر صاحبها هي الموافقة في ما يكون كفرا، بخلاف موافقتهم في ما دون ذلك كالعادات التي تخصهم، فهذا وإن كان حراما إلا إنه ليس بكفر، وإنما الكفر أن تبلغ الموافقة مبلغ إقرارهم على شيء من دينهم الباطل، أو إبطال شيء من ديننا الحق، من غير عذر، قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب كما في (الدرر السنية): وأما إن لم يكن له عذر وجلس بين أظهرهم، وأظهر لهم أنه منهم، وأن دينهم حق، ودين الإسلام باطل، فهذا كافر مرتد، ولو عرف الدين بقلبه، لأنه يمنعه من الهجرة محبة الدنيا على الآخرة، ويتكلم بكلام الكفر من غير إكراه، فدخل في قوله تعالى: {ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم. ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} اهـ.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (كشف الشبهات): عليك بفهم آيتين من كتاب الله:
أولاهما: قوله تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد، أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.
والآية الثانية: قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالأيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنا بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره. فالآية تدل على هذا من جهتين: الأولى قوله: {إلا من أكره} فلم يستثن الله تعالى إلا المكره. ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد. والثانية قوله تعالى: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين اهـ.
وقال الشيخ حمد بن عتيق في (سبيل النجاة): اعلم أن إظهار الموافقة للمشركين له ثلاث حالات، الحال الأولى: أن يوافقهم في الظاهر والباطن فينقاد لهم بظاهره ويميل إليهم ويوادهم بباطنه، فهذا كافر خارج من الإسلام، سواء كان مكرها على ذلك أو لم يكن، وهو ممن قال الله فيه: { ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}.
الحال الثاني: أن يوافقهم ويميل إليهم في الباطن مع مخالفته لهم في الظاهر، فهذا كافر أيضا، ولكن إذا عمل بالإسلام ظاهرا عصم ماله ودمه، وهو المنافق.
الحال الثالث: أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو على وجهين، أحدهما: أن يفعل ذلك لكونه في سلطانهم مع ضربهم أو تقييدهم له، أو يتهددونه بالقتل، فيقولون له: إما أن توافقنا وتظهر الانقياد لنا وإلا قتلناك. فإنه والحالة هذه يجوز له موافقتهم في الظاهر، مع كون قلبه مطمئن بالإيمان، كما جرى لعمار حين أنزل الله تعالى: { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } وكما قال تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } فإن الآيتين متفقتان، كما نبه على ذلك ابن كثير في تفسير آية آل عمران. الوجه الثاني: أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو ليس في سلطانهم، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة أو مال أو مشحة بوطن أو عيال أو خوف مما يحدث في المآل. فإنه في هذه الحال يكون مرتدا، ولا تنفعه كراهته في الباطن، وهو ممن قال الله فيه: { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } فأخبر أنه لم يحملهم على الكفر الجهل بالحق أو بغضه ولا محبة الباطل، وإنما هو أن لهم حظا من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين اهـ.
فإذا عرف هذا عرف أن ما ذكره السائل من الشتم والسب والانتقاص لما هو معظم في الشريعة، كالله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن المجيد، وكذلك الرد بكلمة: صدقت. على من قال منهم: لا يوجد حساب يوم القيامة !! أن هذا يدخل في الموافقة الكفرية، فلا يعذر إلا المكره ونحوه. وراجع للفائدة الفتويين رقم: 26496، 64166.
والله أعلم.