الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العلماء بالقرآن وتفسيره هم أفضل العلماء، وقد بوب القرطبي في تفسيره على فضل تفسير القرآن وأهله فقال: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين فمن ذلك: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذكر جابر بن عبدالله ووصفه بالعلم فقال له رجل: جعلت فداءك! تصف جابرا بالعلم وأنت أنت! فقال : إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى : {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} . وقال مجاهد : أحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أنزل. ..... وقال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرأون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب. ونقل ابن مفلح في الآداب الشرعية عن صاحب المحيط من الحنفية: أفضل العلوم عند الجمهور بعد معرفة أصل الدين وعلم اليقين معرفة الفقه والأحكام الفاصلة بين الحلال والحرام. اهـ.
ويلي أهل التفسير في الفضل المحدثون الجامعون بين الرواية والدراية، فهؤلاء هم ورثة الأنبياء الآخذون بالحظ الوافر، فقد فازوا بتعلم ما في نصوص الوحيين من أمور الدين عقيدة وفقها، وأما الفقهاء المطلعون على الحديث العارفون به فهم أعلى شأنا من المحدثين الذين ليس عندهم إلا جمع الروايات وينقصهم الفهم والدراية لها، لأن الفقيه يكون غالبا أدرى بأصول الفقه وقواعده ومقاصد الشريعة وكيفية الاستنباط، وهؤلاء هم الذين تصدق عليهم مقولة بعض أهل العلم: الفقهاء هم الأطباء والمحدثون هم الصيادلة. وعلى مثل هؤلاء يصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
وقد روى ابن عدي بإسناده أن الأعمش -وهو من كبار أئمة المحدثين- قال: يا نعمان -يعني أبا حنيفة- ما تقول في كذا؟ قال: كذا، قال: ما تقول في كذا؟ قال: كذا، قال: من أين قلت؟ قال: أنت حدثتني عن فلان عنه، فقال الأعمش: يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة. وقال نحو ذلك يحيى بن معين لأبي ثور، كما في المحدث الفاصل للرامهرمزي.
وأما الفقهاء المطلعون على اجتهادات فقهاء المذاهب، وليس عندهم علم بنصوص الوحيين فهم أقل شأنا من المحدثين، لأن العلم بفقه العبادات والمعاملات جزء قليل مما جاء في الوحيين من العلوم، وتعلم العقيدة الصحيحة بأدلتها أفضل منه. ولكن المعروف عند السلف في العصر الأول هو استعمال الفقه في العقائد والعبادات والمعاملات وكان علم العقيدة يسمى الفقه الأكبر، ويدخل كل ذلك فيما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما ثبت في الصحيحين: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: لا ريب أن الذي أوتي العلم والإيمان أرفع درجة من الذين أوتوا الإيمان فقط كما دل على ذلك الكتاب والسنة. والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثته الأنبياء . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العلماء ورثة الأنبياء ؛ إن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر .
وهذا العلم ثلاثة أقسام: علم بالله وأسمائه وصفاته. وما يتبع ذلك وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص وآية الكرسي ونحوهما .
والقسم الثاني : العلم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية وما يكون من الأمور المستقبلة وما هو كائن من الأمور الحاضرة. وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص والوعد والوعيد وصفة الجنة والنار ونحو ذلك .
والقسم الثالث : العلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها. وهذا العلم يندرج فيه العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة. وهذا العلم يندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة فإن ذلك جزء من جزء من جزء من علم الدين. اهـ
وقال ابن حجر: وقوله عز وجل: رب زدني علما {طه: 114}. واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه. اهـ.
وقال ابن أبي العز الحنفي في مقدمة شرحه على العقيدة الطحاوية: علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع، ولهذا سمي الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين (الفقه الأكبر) وحاجة عباد الله إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه. انتهى.
وقال ابن رجب: أفضل العلم: العلم بالله وهو العلم بأسمائه وصفاته وأفعاله، التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته والتبتل إليه والتوكل عليه والصبر عليه والرضا عنه والانشغال به دون خلقه. انتهى.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: ولما كان العلم للعمل قرينا وشافعا وشرفه لشرف معلومه تابعا كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد، ولا سبيل إلى اقتباس هذين النورين وتلقي هذين العلمين إلا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته وصرحت الكتب السماوية بوجوب طاعته ومتابعته وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. اهـ
وفي رد المحتار في الفقه الحنفي في الكلام عن فضل الفقه: وفضيلته كونه أفضل العلوم سوى الكلام والتفسير والحديث وأصول الفقه .اهـ
فهذا الكلام صريح في أن العالم باجتهادات الفقهاء أقل شأنا من العلم بالتفسير والحديث، والأولى بطالب العلم أن يجمع بين الخير كله فيجمع بين فهم القرآن والسنة ورواية ألفاظهما كما كان ابن عباس رضي الله عنه الذي أصابته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم فقهه في الدين.
وكما كان الإمام الشافعي رحمه الله فقد جاء في تاريخ ابن عساكر عن الإمام أحمد قال: كان الفقهاء أطباء، والمحدثون صيادلة، فجاء محمد بن إدريس طبيبا صيدلانيا.
فلهذا ينبغي للمحدث أن يتفقه، وألا يكتفي بسرد الأحاديث وصحتها وضعفها دون فهم لفقهها، كما ينبغي للفقيه أن يكون معه الدليل دون الاكتفاء بحفظ متون الفقهاء.
وقد أحسن وأجاد في هذا الشيخ عبد المحسن العباد حيث قال في شرح سنن أبي داود : ذكر أبو سليمان الخطابي في مقدمة كتابه معالم السنن: أن الناس انقسموا قسمين وصاروا حزبين: أهل خبر وأثر، وأهل فقه ونظر، وقال: إن كلا منهم يكمل الآخر، ولا يستغني أحدهما عن صاحبه. ثم ضرب لذلك مثلا فقال: إن الذي يعتني بالحديث ولا يشتغل بالفقه ولا باستنباط المسائل من الحديث مقصر. ويقابله الذي يشتغل بحصر مسائل الفقه والاشتغال بكلام فقيه من الفقهاء دون أن يرجع إلى كتب الحديث، ودون أن يرجع إلى الأدلة، فهذا أيضا مقصر. ثم قال: إن الحديث والفقه كأساس البنيان والبنيان، فمن عمل أساسا وأحكمه وأتقنه ولم يبن عليه لم يستفد منه. قال: فهذا مثل من يعتني من الحديث بأسانيده ومتونه ولا يشتغل بفقهه وما يستنبط منه؛ لأن الناس متعبدون بالعمل بالحديث، والعمل بالحديث يأتي عن طريق الفقه والاستنباط. ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. والمقصود من الحديث ومن السنن هو فقهها واستنباط ما فيها من أحكام حتى يعمل بها، ولهذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. يعني: يبصره ويعرفه بأمور دينه حتى يكون عارفا بالحق عاملا به داعيا إليه على بصيرة وهدى. فمن يقوي الأساس ثم لا يبني عليه فروعه لا تحصل ثمرته، ومن اشتغل بمسائل الفقه دون أن يرجع إلى الحديث، ودون أن يبحث عن الصحيح والضعيف؛ فإنه يبني على غير أساس، فهو بنيان ضعيف معرض للانهيار؛ لأنه يستدل بحديث موضوع، فكل من الحديث والفقه لابد له من الآخر. ولكن إذا جمع بين الأمرين فقد جمع بين الحسنيين، وعمل على تحصيل الأساس وتقويته ثم بنى عليه الفروع، فجمع بين الرواية والدراية، فهذا هو المطلوب. اهـ.
وأما دعوة الناس بالوحي المنزل من عند الله تعالى، وإنذارهم به ففضلها عظيم فقد كان النبي يدعو الناس بالقرآن ويزكيهم به ويعلمه لهم، فقد قال الله تعالى: قل إنما أنذركم بالوحي {الأنبياء:45}، وقال: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ {الأنعام:19}، وقال: وجاهدهم به جهادا كبيرا.{الفرقان:52}. وقال الله تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. [آل عمران:164].
ولا يشترط أن يكون الداعي عالما بكل النصوص، بل يشرع أن يدعو كل أحد بما يقدر عليه وما يعلمه، ولو كان آية واحدة أو حديثا واحدا فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: بلغوا عني ولو آية. رواه البخاري.
وفي الحديث: نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه. رواه أبو داود وصححه الألباني.
ولكنه لا يسوغ أن نجعل المشتغل بالدعوة أفضل من العلماء المتبحرين في العلم إذا لم يكن عالما مثلهم، فإن العلم بالقرآن والسنة شأنه عظيم، وقد رفع الله تعالى قدر أهله، وفضله على غيره من الطاعات، فقد قال الله تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير. {المجادلة:11}. وفي حديث مسلم: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين.
وأما القاضي فقد قال عياض و المازري و ابن العربي يشترط كونه عالما مجتهدا. كذا في شرح المواق لمختصر خليل.
وكذا يشترط في الحاكم الخليفة كما في مختصر خليل: أهل القضاء: عدل ذكر فطن مجتهد إن وجد وإلا فأمثل مقلد، وزيد للإمام الأعظم قرشي. اهـ.
وكان الساسة الحكام والقضاة في عهد السلف هم أعلم الناس كما في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. ثم قل العلماء المجتهدون أو عدموا فأجاز الفقهاء حكم وقضاء المقلدين، فلم يعد مجرد كون الشخص قاضيا أو حاكما يجعله في مصاف العلماء بالكتاب والسنة فأحرى أن يفضلهم .
وأما تعلم المسلم اللغة العربية، فهو مهم وضروري جدا لأنها لغة القرآن والحديث، وبها يستطيع أن يفهم نصوص الشرع على أكمل حال، فقد قال الله تعالى: إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [يوسف:2]. وقال الله تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين. {الشعراء: 192-195}.
وقد قال الإمام الشافعي: يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغ جهده في أداء فرضه. اهـ
وقال الإمام الشاطبي: المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة فطلب فهمه إنما يكون في هذا الطريق خاصة، لأن الله تعالى يقول: إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [يوسف:2]، وقال: بلسان عربي مبين [الشعراء:195]، وقال تعالى: لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [النحل:103].
إلى غير ذلك.. مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم، فمن أراد فهمه، فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة. اهـ
وقال شيخ الإسلام: ولا بد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ وكيف يفهم كلامه، فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه، ولا يكون الأمر كذلك. انتهى.
فبهذا يعلم فضل العلم بلغة العرب، وإذا تعلمها المسلم واستخدم علمه بها في فهم نصوص الكتاب والسنة فمن تعلمها وتعلم التفسير والحديث كان في مصاف المفسرين والمحدثين.
والله أعلم.