السؤال
من المعلوم أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه نفيا وإثباتا، فهل الصفات التي تفيد النقص: كصفة البكاء ـ ننفيها ابتداء، أو نتوقف فيها أو لا ننفيها إذا أثيرت حولها بعض الشبهات؟ وما هو معيارنا في معرفة أن هذه الصفة هي من صفات النقص؟ أرجو بسط المسألة مع ذكر الأدلة من أقوال علماء أهل السنة، وبارك الله فيكم.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكل صفات النقص يجب نفيها عن الله تعالى، ومن ذلك الصفات المختصة بالمخلوقين كصفة البكاء، فالله تعالى وتقدس منزه عن ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: قال بعضهم ـ يعني المنحرفين من أهل الإثبات: إنه ـ أي الله تعالى وتقدس ـ يندم ويبكي ويحزن، وعن بعضهم: إنه لحم ودم، ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين، والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين، وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص، والله تعالى منزه عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال، وليس له مثل في شيء من صفات الكمال، فهو منزه عن النقص مطلقا، ومنزه في الكمال أن يكون له مثل. اهـ.
وقال الشيخ العثيمين في تقريب التدمرية: الضابط في باب الإثبات أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من صفات الكمال على وجه لا نقص فيه بأي حال من الأحوال، لقوله تعالى: ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم { النحل: 60}ـ والمثل الأعلى هو الوصف الأكمل الذي لا يماثله شيء، فصفات الله تعالى كلها صفات كمال سواء كانت صفات ثبوت أم صفات نفي، وقد سبق أن النفي المحض لا يوجد في صفات الله تعالى، وأن المقصود بصفات النفي نفي تلك الصفة لاتصافه بكمال ضدها، ولهذا لا يصح في ضابط الإثبات أن نعتمد على مجرد الإثبات بلا تشبيه، لأنه لو صح ذلك لجاز أن يثبت المفتري لله سبحانه كل صفة نقص مع نفي التشبيه، فيصفه بالحزن والبكاء والجوع والعطش ونحوها مما ينزه الله عنه مع نفي التشبيه، فيقول: إن الله يحزن لا كحزن العباد ويبكي لا كبكائهم، ويجوع لا كجوعهم، ويعطش لا كعطشهم، ويأكل لا كأكلهم، كما أنه يفرح لا كفرحهم ويضحك لا كضحكهم، ويتكلم لا ككلامهم، ثم يقول المفتري لمن نفى ذلك وأثبت الفرح والضحك والكلام والوجه واليدين: أي فرق بين ما نفيت وما أثبت، إذا جعلت مجرد نفي التشبيه كافيا في الإثبات، فأنا لم أخرج عن هذا الضابط فإني أثبت ذلك بدون تشبيه، فإن قال النافي: الفرق هو السمع أي الدليل من الكتاب والسنة فما جاء به الدليل أثبته وما لم يجئ به لم أثبته، قال المفتري: السمع خبر والخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، لأنه قد يثبت بدليل آخر، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع، ومن المعلوم أن السمع لم يرد بنفي كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلم يرد بنفي الحزن، والبكاء، والجوع، والعطش، وإذا لم يرد بنفيها جاز أن تكون ثابتة في نفس الأمر، فلا يجوز نفيها بلا دليل، وبهذا ينقطع النافي لهذه الصفات حيث اعتمد فيما ينفيه على مجرد نفي التشبيه، ويعلم أنه لا يصح الاعتماد عليها، وإنما الاعتماد على ما دل عليه السمع والعقل من وصف الله تعالى بصفات الكمال على وجه لا نقص فيه، وعلى هذا فكل ما ينافي صفات الكمال الثابتة لله، فالله منزه عنه، لأن ثبوت أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه، وبهذا يمكن دفع ما أثبته هذا المفتري لله تعالى من صفات النقص فيقال: الحزن، والبكاء والجوع، والعطش صفات نقص منافية لكماله فتكون منتفية عن الله، ويقال أيضا: الأكل، والشرب مستلزم للحاجة والحاجة نقص، وما استلزم النقص فهو نقص، ويقال أيضا، الكبد، والمعدة، والأمعاء آلات الأكل والشرب، والمنزه عن الأكل والشرب منزه عن آلات ذلك، وأما الفرح، والضحك، والغضب، ونحوها فهي صفات كمال لا نقص فيها فلا تنتفي عنه، لكنها لا تماثل ما يتصف به المخلوق منها فإنه سبحانه لا كفء له ولا سمي، ولا مثل، فلا يجوز أن تكون حقيقة ذاته كحقيقة شيء من ذوات المخلوقين، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقين، لأنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة، ولا الآدميين، ولا السموات ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الأرض وغير ذلك. اهـ.
وقال الشيخ أيضا في القواعد المثلى في ذكر قواعد الصفات: القاعدة الأولى: صفات الله كلها صفات كمال لا نقص فيها، وإذا كانت الصفة نقصا لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله تعالى، كالموت والجهل والنسيان والعجز، والعمى والصمم، ونحوها، وقد عاقب الله تعالى الواصفين له بالنقص، كما في قوله تعالى: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} وقوله: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق} ونزه نفسه عما يصفون به من النقائص، فقال سبحانه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين، وقال تعالى: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ـ وإذا كانت الصفة كمالا في حال، ونقصا في حال لم تكن جائزة في حق الله، ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتا مطلقا، ولا تنفى عنه نفيا مطلقا، بل لا بد من التفصيل، فتجوز في الحال التي تكون كمالا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصا، وذلك كالمكر، والكيد، والخداع، ونحوها. اهـ.
والخلاصة أن موقف أهل الحق مبني على تنزيه الله تعالى عن صفات النقص مطلقا، قال الدكتور محمد بن خليفة التميمي في كتابه: مواقف الطوائف من توحيد الأسماء والصفات: قولهم ـ يعني أهل السنة ـ في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقا، كالسنة والنوم والعجز والجهل، وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها، على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات. اهـ.
ثم نختم الكلام بتنبيه مهم حيث قال السفاريني في لوامع الأنوار البهية: لا خلاف بين العقلاء أن الله سبحانه وتعالى متصف بجميع صفات الكمال، منزه عن جميع صفات النقص، لكنهم مع اتفاقهم على ذلك اختلفوا في الكمال والنقص، فتراهم يثبت أحدهم لله ما يظنه كمالا، وينفي الآخر عين ما أثبته هذا لظنه نقصا، وسبب ذلك أنهم سلطوا الأفكار على ما لا سبيل إليه من طريق الفكر، فإن الله تعالى خلق العقول، وأعطاها قوة الفكر وجعل لها حدا تقف عنده من حيث ما هي مفكرة، لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي، فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدها ووفت النظر حقه، أصابت بإذن الله تعالى، وإذا سلطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها ووراء حدها الذي حده الله لها، ركبت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء، فلم يثبت لها قدم ولم ترتكن على أمر تطمئن إليه، فإن معرفة الله التي وراء طورها مما لا تستقل العقول بإدراكها من طريق الفكر وترتيب المقدمات، وإنما تدرك ذلك بنور النبوة وولاية المتابعة، فهو اختصاص إلهي يختص به الأنبياء وأهل وراثتهم مع حسن المتابعة، وتصفية القلب من وضر البدع والفكر من نزغات الفلسفة، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. اهـ.