السؤال
أريد أن أسئل عن معنى الآية الكريمة: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ـ هل معنى ذلك أن ولي الأمر المسلم يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يسلموا في أي زمان وفي أي مكان؟ أم إن الوضع الآن قد تغير في بلاد المسلمين؟ أريد تفسيرا واضحا لهذه الآية.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحكم الذي تضمنته الآية الكريمة على حاله لم يتغير، والجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والجزية وتطبيقاتها إلى ولي أمر المسلمين بحسب الأحوال الواقعية والمتجددة، وأما تفسير الآية فيقول القطان في تفسيره: قاتلوا الكافرين من أهل الكتاب الذين لا يؤمنون إيمانا صحيحا بالله، ولا يقرون بالبعث والجزاء إقرار صحيحا، بل يقولون إن حياة الآخرة حياة روحانية يكون فيها الناس كالملائكة، وهم لا يحرمون ما نهى الله ورسوله عنه، ولا يعتنقون الدين الحق وهو الإسلام قاتلوهم حتى يؤمنوا أو يؤدوا الجزية خاضعين طائعين.
والجزية ضريبة مالية من أموال غير المسلمين المستظلين براية الاسلام، وهي مقدار يتراوح بين اثني عشر درهما، وثمانية وأربعين وذلك ليسهموا في ميزانية الدولة التي تحميهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم فهي في مقابل ما يؤخذ من المسلم، فالمسلم يؤخذ منه خمس الغنائم والزكاة، وصدقة الفطر، وغير ذلك مثل الكفارات للذنوب المختلفة، وتنفق الجزية في المصالح العامة، وعلى فقراء أهل الذمة أيضا، وتفرض الجزية على أهل الكتاب، ولا تفرض على المشركين هكذا عند جمهور العلماء، ويقرر أبو حنيفة أنها تفرض على غير المسلمين جميعا، أما المشركون الذين لا تقبل منهم فهم مشركو العرب فقط، وفيما يلي عهد كتبه أحد أمراء عمر بن الخطاب إلى مرزبان وأهل دهستان: هذا كتاب سويد بن مقرن لمرزبان بن صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان أن لكم الذمة وعليكم المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا عن جزائه، ولكن الأمان على أنفسكم وأموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يغير شيء من ذلك. اهـ.
وقال الطنطاوي في تفسيره: من الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتي:
1ـ إن هذه الآية أصل فى مشروعية الجزية وأنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عند كثير من الفقهاء، لأن أهل الكتاب هم الذين يخيرون بين الإسلام أو القتال أو الجزية، أما غيرهم من مشركي العرب فلا يخيرون إلا بين الإسلام أو القتال، قال القرطبى ما ملخصه: وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية فقال الشافعى: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة، عربا كانوا أو عجما لهذه الآية، فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم، لقوله تعالى في شأن المشركين: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ـ ولم يقل: حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب.
وقال الشافعى: وتقبل من المجوس، لحديث: سنوا بهم سنة أهل الكتاب ـ أى: في أخذ الجزية منهم، وبه قال أبو ثور، وهو مذهب الثورى وأبي حنيفة وأصحابه، وقال الأوزاعي: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب، وكذلك مذهب مالك: فإنه يرى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد عربيا أو عجميا تغلبيا أو قرشيا كائنا من كان إلا المرتد.
2ـ أن أخذ الجزية منهم إنما هو نظير ما ينالهم وكفنا عن قتالهم، ومساهمة منهم فى رفع شأن الدولة الإسلامية التى أمنتهم وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم ومقدساتهم وإقرار منهم بالخضوع لتعاليم هذه الدولة وأنهم متى التزموا بدفعها وجب علينا حمايتهم، ورعايتهم، ومعاملتهم بالعدل والرفق والرحمة، وفي تاريخ الإسلام كثير من الأمثلة التي تؤيد هذا المعنى، ومن ذلك، ما جاء في كتاب الخراج لأبي يوسف أنه قال في خطابه لهارون الرشيد: وينبغى يا أمير المؤمنين ـ أيدك الله ـ أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم، فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ظلم من أمتي معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه، وكان فيما تكلم عمر بن الخطاب عند وفاته: أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم، وجاء فى كتاب أشهر مشاهير الإسلام أن جيوش التتار لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ثم خضد المسلمون شوكة التتار، ودان ملوكهم بالإسلام، خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية أمير التتار بإطلاق الأسرى فسمح له بالمسلمين وأبى أن يسمح بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام: لا بد من إطلاق جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة فأطلقهم له، وجاء في كتاب: الإسلام والنصرانية للأستاذ الإمام محمد عبده ما ملخصه: الإسلام كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه، ثم يترك الناس وما كانوا عليه من دين، ثم يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عونا على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في ديارهم، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار، لا يضايقون في عمل، ولا يضامون في معاملة، خلفاء المسلمين كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديرة للعبادة، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على القتال، جاءت السنة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ومن آذى ذميا فليس منا، واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في أبناء الإسلام فضيق الصدر من طبع الضعيف، ثم قال: أما المسيحية فترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم طردتهم عن ديارهم، وغسلت الديار عن آثارهم كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقا، ولا يمنع غير المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد أو شدة العضد، كما شهد التاريخ، وكما يشهد كاتبوه، ثم قال: فأنت ترى الإسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها، بشيء من المال أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء لا يعكرون معه صفو الدولة ولا يخلون بنظام السلطة العامة، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم .اهـ.
والله أعلم.