الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففعلكم هذا لا يخرج من الملة لأنكم حسب الظاهر لم تقصدوا بالضحك الاستهزاء بالقرآن.
وأما التكبر فهو مذموم في الخلق كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق، وغمط الناس.
قال ابن رجب الحنبلي: المتكبر ينظر إلى نفسه بعين الكمال وإلى غيره بعين النقص فيحتقرهم ويزدريهم ولا يراهم أهلا لأن يقوم بحقوقهم ولا أن يقبل من أحدهم الحق إذا أورده عليه. اهـ.
وأما في حق الله تعالى فلا يذم ولا يراد به ما ذكر في الحديث، بل هو من صفات جلاله سبحانه وتعالى، فقد ذكر أهل العلم أن صفات الله تعالى باعتبار المقارنة بصفات العبد أقسام:
القسم الأول: ما هو كمال في الخالق والمخلوق، وذلك: كالسمع، والبصر، والحياة، والإرادة، و… وهذه تثبت لله سبحانه.
القسم الثاني: ما هو كمال في المخلوق ونقص في الخالق، كالنوم، والأكل، والشرب. وهذه لا تثبت لله سبحانه، بل هي من الصفات السلبية المنفية عنه.
القسم الثالث: ما هو نقص في المخلوق كمال في الخالق، كالتكبر، والتجبر. قال سبحانه وتعالى عن نفسه: (العزيز الجبار المتكبر) [الحشر:23] .
وقد فسر ابن الجوزي في زاد المسير معنى المتكبر فقال: فأما المتكبر ففيه خمسة أقوال: أحدها: أنه الذي تكبر عن كل سوء. قاله: قتادة . الثاني: أنه الذي تكبر عن ظلم عباده. قاله: الزجاج . الثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك. قاله: ابن الأنباري . الرابع: أنه المتعالي عن صفات الخلق. الخامس: أنه الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة فقصمهم. ذكرهما الخطابي -يعني القولين الأخيرين- وقال: التاء في المتكبر تاء التفرد والتخصص، لأن التعاطي والتكلف والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل، وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق. انتهى كلامه.
وقال صاحب كتاب (جواهر القرآن) : المتكبر الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله، وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم، وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلة الانقياد. وقال حميد بن ثور : (عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت بها كبرياء الصعب وهي ذلول) والكبرياء في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم، وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى - أنه قال: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما قصمته، ثم قذفته في النار" . وقيل: المتكبر معناه: الكبير، لأنه أجل من أن يتكلف كبرا، وقد يقال: تظلم بمعنى: ظلم، وتشتم بمعنى: شتم، واستقر بمعنى: قر، كذلك المتكبر بمعنى: الكبير، وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف بتفعل إذا نسب إلى ما لم يكن منه ثم نزه نفسه، فقال: سبحان الله أي تنزيها لجلالته وعظمته عما يشركون. انتهى
وقال ابن كثير : وقوله تعالى العزيز أي: الذي قد عز كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه، ولهذا قال تعالى: (الجبار المتكبر) أي: الذي لا تليق الجبرية إلا له، ولا التكبر إلا لعظمته، كما تقدم في الصحيح: "العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته" . وقال قتادة : الجبار: الذي جبر خلقه على ما يشاء، وقال ابن جرير : الجبار: المصلح أمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم، وقال قتادة : المتكبر يعني: عن كل سوء، ثم قال تعالى: (سبحان الله عما يشركون) . انتهى
وأما اسم الجبار، فمعناه كما قال الطبري: المصلح أمور خلقه، المصرفهم فيما فيه صلاحهم. وكان قتادة يقول: جبر خلقه على ما يشاء من أمره. اهـ
وقال السعدي: { الجبار } الذي قهر جميع العباد، وأذعن له سائر الخلق، الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير.
وأما عما ثبت في النصوص من صفات الله تعالى الفعلية كالاستواء والنزول وغير ذلك - فالذي عليه المحققون من أهل السنة وهو المأثور عن أئمة السلف هو إثباتها كما يليق به سبحانه وتعالى دون تحريف ولا تمثيل ولا تكييف .
فقد روى الخلال في السنة عن الوليد بن مسلم قال: سألت سفيان والأوزعي ومالك بن أنس والليث بن سعد عن هذه الأحاديث فقالوا: نمرها كما جاءت. قال الخلال: هذا في أحاديث الصفات وهو مذهب السلف إثبات حقيقتها ونفي علم الكيفية. انتهى.
قال الإمام الطحاوي: نمرها كما جاءت ونؤمن بها ولا نقول كيف وكيف. انتهى.
وقال شيخ الإسلام: ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصف به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وأهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله مستندين في ذلك إلى الدليل السمعي، والدليل العقلي.
أما الدليل السمعي، فمثل قوله تعالى: [قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون] (الأعراف: 33) والشاهد في قوله: [وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون] .
وأما الدليل العقلي: فكيفية الشيء لا تدرك إلا بواحد من أمور ثلاثة لم تتحقق عندنا، فصفات الله عز وجل لم نشاهدها، ولم نشاهد لها نظيرا، ولم يأتنا خبر صادق عنها، لا من ربنا ولا من نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقولهم في هذا هو ما قال الإمام مالك رحمه الله وغيره من السلف عندما سئلوا عن قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى [طـه: 5].
قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان.
وما دمت تعلم من نفسك الوسوسة فعليك أن تعرض عن التفكير في مثل هذه الأمور، وأن تفكر في آيات الله تعالى وأنعمه لتتبين بها عظمته وقدرته.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله. أخرجه أبو الشيخ والطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما، وحسنه الألباني.
وفي رواية عند أبي نعيم في الحلية: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله. حسنه الألباني أيضا.
ومما يشهد لهذا أن فرعون لما سأل موسى عليه السلام قائلا: (وما رب العالمين) قال له موسى: (رب السماوات والأرض وما بينهما) ففرعون سأل عن ذات الله، وموسى أجابه بصفاته.
وهذا هو المسلك السليم للمؤمن. ومن وجد في نفسه وسوسة للشيطان بالتفكر في ذات الله فليستعذ من ذلك، وليقل آمنت بالله.
فقد روى مسلم وغيره عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم، واللفظ لمسلم قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه ؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان.
قال النووي: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال: تلك محض الإيمان. وقال: ذلك صريح الإيمان. ومعناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما هو لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا، وانتفت عنه الريبة والشكوك. وقيل معناه: إن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه، فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد.
قال العلماء: والشيء الذي استعظمه الصحابة وامتنعوا عن الكلام به هو ما يوسوس به الشيطان من نحو: من خلق الله ؟ وكيف هو ؟ ومن أي شيء ؟ ونحو ذلك مما يتعاظم النطق به من الأشياء القبيحة التي تخطر في القلوب، وليس معناه أن الوسوسة نفسها هي صريح الإيمان، وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما شكوا إليه ذلك قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة. رواه أحمد وأبوداود.
قال ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس: ومن ذلك أن الشيطان يأتي إلى العامي فيحمله على التفكر في ذات الله وصفاته فيتشكك، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسألون حتى تقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة: فوالله إني لجالس يوما إذ قال رجل من أهل العراق هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة: فجعلت أصبعي في أذني ثم صحت: صدق رسول الله، الله الواحد الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم له كفوا أحد. انتهى.
وأما عن أحاديث النفس وما يحول في الخواطر - فإن الله تعالى برحمته لا يحاسب عليها عباده، فقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم.
وأما التوبه من جميع الذنوب على سبيل الإجمال فهي كافية كما قال محمد مولود في مطهرة القلوب في شروط التوبة:
وشرطها استحلاله للآدمي من حقه الظاهر غير الحرمى
ونحوه إن تستطع تحلله منه ولا بد من أن تفصله
له وتكفي في ذنوب مجمله ومنكر عجز أن يعود له
اهـ
وأما الجواد فهو اسم من أسماء الله تعالى كما في الحديث: إن الله تعالى جواد يحب الجود. رواه البيهقي وصححه الألباني.
قال الشربيني في تفسيره: قال أهل المعاني : الإلحاد في أسمائه تعالى هو أن تسميه بما لم يسم الله به نفسه ، ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة ؛ لأن أسماءه تعالى كلها توقيفية فيجوز أن يقال : يا جواد ، ولا يجوز أن يقال : يا سخي...اهـ
والله أعلم.