الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما قوله صلى الله عليه وسلم: احفظ الله يحفظك ـ فلا يقتصر كما قد يفهم من كلام السائل على حفظ البدن ونحوه، بل الأعظم من هذا حفظ الإيمان والاستقامة على مرضاة الله تعالى، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: حفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز وجل: له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله { الرعد: 11} قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه، وقال علي رضي الله عنه: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه.
النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإيمان. اهـ.
وقال الشيخ عطية سالم في شرح الأربعين النووية: هناك حفظ أعظم منه، فإذا حفظت الله في حقه، وفي أسمائه وصفاته وفي أوامره ونواهيه حفظك أن تهدم ذلك، وحفظك من أن تقع في السوء، وحفظك من أن تحيد عن الطريق، وحفظك على الجادة السوية، وحفظك على الصراط المستقيم. اهـ.
وهذا في غاية الظهور في قصة أصحاب الأخدود، حيث حفظ الله إيمان الغلام وقومه رغم شدة ما وقع بهم من البلاء، وقد قال تعالى: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين {آل عمران: 146}.
فمن حفظ الله لعبده الصالح أنه مع ما يصيبه في سبيل الله لا يهن ولا يضعف، بل يثبت على ما يرضي الله تعالى!!
وأما قوله عز وجل: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {غافر: 51}.
فقال الماوردي في النكت والعيون: فيه قولان:
أحدهما: بإفلاج حجتهم، قاله أبو العالية.
الثاني: بالانتقام من أعدائهم، قال السدي: ما قتل قوم قط نبيا أو قوما من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله من ينتقم لهم فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا. اهـ. فنصرة الله تعالى لعباده لا تقتصر على صورة واحدة.
وأما مقتل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو يصلي الصبح في جماعة، فلا يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم. رواه مسلم وغيره.
فإن هذا الحديث لا يعني أن من فعل ذلك فهو آمن من وقع الظلم عليه، ولكن معناه أن ظالمه متعرض لعقوبة الله تعالى، قال المناوي في فيض القدير: المعنى أن من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا تتعرضوا له بشيء ولو يسيرا، فإنكم إن تعرضتم يدرككم ولن تفوتوه فيحيط بكم من جوانبكم. اهـ.
وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي: هذه إشارة إلى أن الحفظ سينحل بقصد المؤذي إليه، ولكن الباري سيأخذ حقه منه في إخفار ذمته التي أعلن بها، وهذا إخبار عن إيقاع الجزاء لا عن وقوع الحفظ من الإخفار والإذاية، فلأجل هذا وقع الإخفار وأفادا لحديث التهديد والوعيد والتحذير من أن يقع أحد في ذلك ثم يكون الإقدام والإحجام بحسب القضاء والقدر. اهـ.
وفي تحفة الأحوذي: المراد نهيهم عن التعرض لما يوجب مطالبته إياهم، ومن بمعنى لأجل. اهـ.
وأما سحر النبي صلى الله عليه وسلم، مع قوله تعالى: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون { النحل: 99ـ 100}.
فيستفاد جوابه من رسالة الدكتوراة للدكتور: عبد المحسن المطيري دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم: ومن جملة هذه الطعون قول بعضهم: كيف يسحر النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الشياطين لا تسلط على عباد الله الصالحين، كما قال تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين { الحجر:42 } إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون {النحل: 100} فسحر النبي دليل أنه من الغاويين وأنه من الذين يتولون الشيطان. اهـ.
فأجاب الدكتور بقوله: السحر أنواع:
1ـ سحر بالأدوية.
2ـ سحر لا حقيقة له، بل هو خيال أو خفة يد.
3ـ سحر بالاستعانة بالشياطين.
إذن فليس كل أنواع السحر تسلط من الشياطين على المسحور، وذهب بعض العلماء إلى أن سحر النبي صلى الله عليه وسلم من نوع الأدوية، قال ابن حجر: واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: فأما أنا فقد شفاني الله ـ وفي الاستدلال بذلك نظر, لكن يؤيد المدعى أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل فكان يدور ولا يدري ما وجعه، وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: مرض النبي وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان..الحديث، ولو سلمنا أنه من النوع الشيطاني، فليس كل تعرض من الشيطان للإنسان معناه أنه ليس من عباد الله، وفرق كبير بين التعرض والمحارشة وبين التسلط، ويؤيد ذلك ما أخرجه مسلم عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم ـ فكل صالح يتعرض له الشيطان، بل هذه وظيفته في الحياة، وهو أقسم على إغواء بني آدم، ولو سلمنا أن هذا من التسلط فإنه لفترة محدودة ثم بعد ذلك يذهبه الله تعالى ويرجع المسلم إلى حاله الأولى، فهذا آدم عليه السلام أغواه الشيطان حتى وقع في أكل الشجرة، وهذا موسى قتل نفسا بغير نفس فقال: هذا من عمل الشيطان { القصص: 15} ولا يقول أحد أن هذا من التسلط بمعنى التحكم والإغواء والتضليل، بل يبقى آدم وموسى من خير أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. اهـ.
وأما قوله تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا {الإسراء: 82}.
فقد جاء في معناه ما قاله ابن كثير: أي يذهب ما في القلب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل، فالقرآن يشفي من ذلك كله، وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة، وأما الكافر الظالم نفسه بذلك، فلا يزيد سماعه القرآن إلا بعدا وكفرا، والآفة من الكافر لا من القرآن، كقوله تعالى: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد {فصلت: 44}. اهـ.
ثم ليعلم أن القرآن وغيره من أسباب الشفاء والعافية مرتبطة بقضاء الله وقدره، وعلمه وحكمته، فلا يدري المرء متى يحصل الشفاء وإن كان يوقن أن عمله لن يضيع سدى، قال الشيخ مصطفى العدوي في صحيح الرقية الشرعية: قد يتأخر الشفاء لأمر يريده الله سبحانه وتعالى، فهو يعلم ونحن لا نعلم، وقد قال سبحانه: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون {البقرة: 216} وقد قال أيضا: فيكشف ما تدعون إليه إن شاء {الأنعام:41} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة كانت تصرع: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولك الجنة ـ فقد يتأخر الشفاء، ويكون في ذلك نوع من أنواع الابتلاء والاختبار، هل يثبت الشخص على إيمانه أم أنه يتجه إلى الشعوذات والخرافات، والسحرة والكهنة، والدجالين والعرافين؟ فهؤلاء الذين يعوذون برجال من الجن يزيدون المريض مرضا إلى مرضه، وقد قال تعالى: وأنه كان رجال من الأنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا { الجن:6} ونذكر أيضا بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء. اهـ.
وعلى أية حال فإشكال السائل هنا يشبه إشكال تأخر إجابة الدعاء مع الإلحاح فيه، وقد وعد الله بالإجابة، وراجع في جواب ذلك الفتوى رقم: 140414.
والله أعلم.