السؤال
هل فصل السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإمكانية خضوع الحاكم لمحاسبة القضاء تعد من المبادئ الإسلامية؟.
هل فصل السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإمكانية خضوع الحاكم لمحاسبة القضاء تعد من المبادئ الإسلامية؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمبادئ الحكم الإسلامي لا تفرض ذلك ولا تمنعه، وإنما تحتم القيام بالعدل والقسط، وتقوم على الشورى ومناصحة ولاة الأمور، بأي سبيل لا يتعارض مع الشريعة الغراء، قال الشيخ عبد الوهاب خلاف في السياسة الشرعية: قد روعي في الحكومات الدستورية الحاضرة أن يكون رجال القضاء غير رجال التشريع تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطات، ولكن في صدر الإسلام كانت السلطة التشريعية والقضائية تجتمع في يد واحدة، لأن الخليفة كان يتولاها، فإن وجد نصا قضى به، وإن لم يجد يستشير الفقهاء والمفتين من الصحابة بالقضاء، فكان رجال القضاء من المجتهدين الذين لهم السلطة التشريعية، وكان قانونهم هو كتاب الله والسنة الصحيحة وما يستقر عليه رأي جماعة التشريع. اهـ.
وإنما لجأ أساطين الديمقراطية لفرض هذا المبدأ لضمان خضوع الدولة والسلطة للقانون، ومواجهة السلطة المطلقة للملوك والكنيسة، في حين لم يحتج الأمر إبان الحكم الإسلامي في عصره الأول لذلك، لوجود الوازع الديني والأخلاقي، وحاكمية الشريعة على الجميع: حكاما ومحكومين، ومع ذلك فقد كانت دولتهم أحق بوصف: دولة القانون، قال الدكتور توفيق السديري في كتابه الإسلام والدستور: هذا المبدأ ـ يعني الفصل بين السلطات ـ يشكل ضمانة لخضوع الدولة للقانون، وهي ضمانة مهمة وفعالة ولكن عدم الأخذ به لا يعني عدم قيام الدولة القانونية، لأن مجرد احترام الهيئات الحاكمة لقواعد اختصاصها وعدم خروجها عن حدود سلطاتها يكفي لاعتبار الدولة خاضعة للقانون. اهـ.
وقال الدكتور عثمان ضميرية في مقاله السلطات العامة في الإسلام: قد جرى الباحثون الغربيون في العصر الحديث على تقسيم السلطات إلى ثلاث، وتبع ذلك الحديث عن فصل هذه السلطات، وهذا المبدأ ـ فصل السلطات ـ في مقدمة المبادئ الدستورية الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية الغربية، والتفسير الصحيح لهذا المبدأ: هو عدم الجمع بين السلطات في يد شخصية واحدة أو هيئة واحدة أيا كانت، بل ينبغي توزيعها وتقسيمها بين هيئات مختلفة، ضمانا لعدم إساءة استعمالها فتصبح أداة طغيان واستبداد، فهو مبدأ ظهر من أجل محاربة السلطة المطلقة للملوك الذين كانوا يجمعون في أيديهم السلطات الثلاث، وهذا المبدأ في القانون الحديث واجه نقدا من وجوه ثلاثة:
أحدها: أن هذا الفصل غير حقيقي، لأن الواقع العملي هو أن السلطة التنفيذية تستولي حتما على السلطة التشريعية، فلا يتحقق التوازن بين السلطات.
الثاني: أن هذا الفصل قد يؤدي إلى التعطيل.
الثالث: أنه قد تجتمع السلطات في يد فرد واحد أو هيئة واحدة، ولا يؤدي ذلك إلى الفساد والاستبداد، والمثال على ذلك من قبل نظرية مونتسكيو، نجده في الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين، كما نجده في عصر لاحق لمونتسكيو، وهو خاص بسويسرا، التي لا تأخذ بهذا المبدأ، ومع ذلك فإن الحريات مكفولة فيها إلى حد يفوق الكثير من البلاد التي أخذت بهذا المبدأ وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تأخذ بهذا المبدأ بصورة متطرفة، وإذا كان مبدأ فصل السلطات، أو توزيعها، له أهمية في القانون الدستوري في الأنظمة الغربية لظروف معينة ودواع استدعت ذلك فإنه ليس في الإسلام ما يوجب ذلك الفصل أو يمنعه، لأن الدولة الإسلامية دولة عقائدية تقوم على الدين والإيمان، وتسعى لتطبيق أحكام الشريعة والالتزام بها في كل مجالات الحياة ـ كما رأينا ـ فكل ما يحقق أهدافها وغايتها في إقامة الحق والعدل ومنع الظلم والطغيان والعدوان: يمكن الأخذ به، ويجوز تنظيمه، لخضوعه للمصلحة العامة التي لا تخالف نصا شرعيا أو قاعدة عامة، مما لا تضيق به قواعد الإسلام ومقاصده، وفي هذا يقول أستاذنا الدكتور مصطفى كمال وصفي ـ رحمه الله: فالفصل حقيقي تام بين السلطة التشريعية ـ وهي المقصودة في الحقيقة بالحماية والصيانة ـ وبين السلطة التنفيذية والقضائية فالواقع أن الأخيرتين تنفيذيتان بالنسبة للأولى، فإن القضاء إنما يطبق القانون، وتنظيمه رهين بالقانون ووليده، فالقانون هو أداة تنظيم القضاء، وبذلك فالسلطة التشريعية تعلو على السلطتين الأخريين، وتخضع هاتان السلطتان لعملها شكلا من حيث التنظيم، وموضوعا من حيث ما تطبقه من قواعد. اهـ.
وقال الشيخ محمد بن شاكر الشريف في مقاله الديمقراطية حقيقة أم وهم: إن كل ما يمكن أن تقبله النفوس السوية أو تدعو إليه، مما دل عليه الفكر الديمقراطي، قد دلت عليه من قبل شريعة الإسلام، لكن على نحو صاف خال من الشوائب العالقة بالديمقراطية، فمثلا عمد الفكر الديمقراطي في سبيل الحد من طغيان السلطات أن دعا إلى ما عرف بمسألة الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية ـ التنفيذية ـ القضائية ـ ورغم أن الفكر الديمقراطي لم يستطع أن يحقق ذلك فعلا تحقيقا كاملا، ومع ذلك فقد جعل السلطة التشريعية في يد البشر المجلس التشريعي وهذا من أشد الطغيان، وأما في شريعة الإسلام فإن التشريع ليس من اختصاص البشر، بل هو لله وحده، وكل ما للبشر في هذا المجال هو الاجتهاد في ضوء الشريعة الإلهية، على أمل إدراك حكم الشارع في هذه المسائل التي تحتاج إلى الاجتهاد، وأما السلطة القضائية في الشريعة فهي سلطة مستقلة حقا ليس لأحد عليها سلطان خارجي حتى لو كان الأمير، ولا يملك أحد إلزامه بشيء خارج عما شرعه الله تعالى، بل لو أراد الأمير أن يلزمه بالقضاء على أحد المذاهب الإسلامية لم يكن له ذلك، يقول ابن قدامة: ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه، وهذا مذهب الشافعي ولم أعلم فيه خلافا، لأن الله تعالى قال: فاحكم بين الناس بالحق {ص: 26} والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب، فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع ـ وهو ما يبين استقلال القضاء في الإسلام، وأنه ليس لولي الأمر أن يتدخل فيه، بل لو قضى القاضي بما يخالف اجتهاد ولي الأمر، لم يكن له لينقض كلام القاضي، يقول ابن القيم: وعن عمر أنه لقي رجلا، فقال: ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله، أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك، فلم ينقض ما قال علي وزيد، وأما السلطة التنفيذية فإنه لا يجوز اغتصابها، والتغلب عليها، واستخدام القوة للحصول عليها، وإنما يشرع أن يكون ذلك برغبة المسلمين ورضاهم وشوراهم من غير إجبار أو إكراه، ويبين أهل العلم أن السلطة التنفيذية ـ الخلافة ـ لا تمنحها لمستحق إلا الأمة، فقد أجمع أهل العلم على أن نصب الإمام فرض كفاية على الأمة، وهذا يعني أنه مفروض على الأمة من حيث مجموعها لا من حيث أفرادها، ولا يمكن أن يقال: إن الأمة مفروض عليها القيام بذلك العمل، بينما لا يكون لها دور في العمل نفسه، هذا كلام متناقض يدفع بعضه بعضا. اهـ.
وأما إمكانية خضوع الحاكم لمحاسبة القضاء، فهذه لا إشكال فيها، وقد ذكر القاضي أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية ولاية القضاء فقال: إذا كانت ولاية القاضي عامة فنظره يشتمل على عشرة أحكام .. العاشر: التسوية في الحكم بين القوي والضعيف، والشريف والمشروف، ولا يتبع هواه في الحكم، وقد روي عن شريح أنه قال: أصاب أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ درعا له سقطت منه وهو يريد صفين مع يهودي، فقال: يا يهودي هذه الدرع سقطت مني ليلا، وأنا أريد صفين فقال: بل هي درعي وفي يدي، فقدمه إلى شريح، فارتفع علي على اليهودي، ثم قال لشريح: لولا أنه ذمي لجلست معه مجلس الخصوم. اهـ.
والله أعلم.