موقف المستفتي عند اختلاف العلماء وتكافؤ الأدلة

0 389

السؤال

لدي أكثر من سؤال:
كنت أنا وإخوتي نتحدث عن اختلاف المذاهب في بعض الأمور. فقلت لهم على سبيل المثال: الحنابلة يقولون إذا طلق الشخص ثلاثة في لفظ واحد تحسب طلقة. ولكني عرفت فيما بعد أن ابن تيمية هو من أفتى بذلك.
السؤال الأول: هل علي إثم بسبب الخطأ في ما قمت بقوله والله إني كنت أعتقد أن ابن حنبل قال ذلك!
السؤال الثاني: هل يقع طلاق إذا كان الشخص يحكي حكاية ولو كانت غير صحيحة مائة في المائة كما حدث معي؟
السؤال الثالث: ما رأيكم في اختلاف العلماء؟ هل يؤخذ بما كان أيسر لقوله تعالى : يريد الله بكم اليسر.
بارك الله فيكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فإن ابن تيمية رحمه الله من علماء الحنابلة وبعض متأخري الحنابلة يفتون الآن بمذهبه المذكور في الطلاق.

وأما نسبة ذلك للإمام أحمد فهو غلط، والمعروف عنه خلافه، و لكنك لا تأثم به ما دمت كنت تظن أن هذا هو مذهب الإمام نفسه الذي ذهب إليه.

وأما حكاية خبر غير صحيح فإن كنت تقصد حكاية الطلاق فلا يقع به الطلاق، لأن الطلاق لا يقع إلا بقصد إنشائه، وراجع الفتوى رقم: 117990.

والواجب عند الخلاف أن يتبع المسلم الدليل من الكتاب والسنة فيما علم دليله، وأن يقلد من ترجح عنده صحة اجتهاده فيما لا دليل عليه، فاذا تكافأت الأدلة لدى المجتهد أو استوى العلماء عند العامي فقد اختلف العلماء في الواجب عليه حينئذ، فقيل يتبع الأشد لكونه أحوط ولحصول براءة الذمة به بيقين، وقيل يأخذ بأي الأقوال شاء ما لم يقصد تتبع الرخص، وقيل يأخذ بالأيسر لكون الشريعة مبنية على التخفيف.
 جاء في الموسوعة الفقهية: ذهب بعض الشافعية والحنابلة إلى أن العامي إذا اختلف عليه فتوى علماء عصره فهو مخير يأخذ بأيها شاء. قال الشوكاني : واستدلوا بإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل . وقيل : ليس هو على التخيير ، بل لا بد من مرجح . وبه قال الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية وأحمد في رواية وكثير من الفقهاء . ثم قد قيل : يأخذ بالأغلظ ، وقيل : بالأخف ، وقيل : بقول الأعلم . وقال الغزالي : يأخذ بقول أفضلهم عنده وأغلبهم صوابا في قلبه . وقد أيد الشاطبي القول الثاني من أن المقلد ليس على التخيير . قال: ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف ؛ لأن كل واحد من المفتين متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه، فهما صاحبا دليلين متضادين . فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى . فليس إلا الترجيح بالأعلمية ونحوها . فكما يجب على المجتهد الترجيح ، أو التوقف ، فكذلك المقلد . وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي. انتهى.

 وقال الطوفي رحمه الله في شرح مختصر الروضة: قوله: فإن استويا عنده ، أي: إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة، واختلفا عليه في الجواب، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يتبع أيهما شاء مخيرا لعدم المرجح. الثاني: يأخذ بأشد القولين، لأن الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي ، كما يروى في الأثر. وفي الحكمة: إذا ترددت بين أمرين، فاجتنب أقربهما من هواك. وروى الترمذي من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما وفي لفظ: أرشدهما. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ورواه أيضا النسائي وابن ماجه. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد. الثالث: يأخذ بأخف القولين لعموم النصوص الدالة على التخفيف في الشريعة، كقوله - عز وجل -: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}. انتهى.

وحكى العلامة ابن عثيمين هذه الأقوال ورجح أنه يأخذ بالأيسر في هذه الحال.

قال رحمه الله: مسائل العلم يجب على الإنسان أن يتبع من يرى أنه أقرب إلى الصواب إما لغزارة علمه وإما لثقته وأمانته ودينه. فإن لم يعلم أيهما أرجح في ذلك فقد قال بعض أهل العلم إنه يخير إن شاء أخذ بقول هذا وإن شاء أخذ بقول هذا، وقال بعض العلماء يأخذ بما هو أحوط أي بالأشد احتياطا وإبراء للذمة، وقال بعض العلماء يأخذ بما هو أيسر لأن ذلك أوفق للشريعة، إذ إن الدين الإسلامي يسر كما قال الله تبارك تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وكما قال تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وكما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الدين يسر) وكما قال وهو يبعث البعوث: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) أي أنه إذا اختلفت آراء العلماء عندك وليس عندك ترجيح فإنك تأخذ بالأيسر لهذه الأدلة ولأن الأصل براءة الذمة، ولو ألزمنا الإنسان بالأشد للزم من ذلك إشغال ذمته والأصل عدم ذلك وهذا القول أرجح عندي أي أن العلماء إذا اختلفوا على قولين وتكافأت الأدلة عندك في ترجيح أحد القولين فإنك تأخذ بالأيسر منهما، وهذا أعني القول بالأخذ بالأيسر فيما يتعلق بنفس الإنسان أما إذا كان يترتب على ذلك مفسدة فإنه يمتنع من إظهار ذلك وإعلانه... وعلى هذا فنقول: القول الصحيح أن نأخذ بالأيسر ما لم يتضمن ذلك مفسدة فإن تضمن ذلك مفسدة فليأخذ بالأيسر في حق نفسه فقط. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة