الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف أهل العلم في جلود الميتة هل تطهر بالدباغ أم لا؟
فقيل: جميع جلود الميتة تطهر بالدباغ، إلا الكلب، والخنزير، والمتولد من أحدهما، ويطهر الدباغ ظاهر الجلد، وباطنه، ويجوز استعماله في اليابسات، والمائعات، وإلى هذا ذهب الشافعي، واستدل على استثناء الخنزير بقوله تعالى: أو لحم خنزير فإنه رجس {الأنعام:145}، وجعل الضمير عائدا إلى المضاف إليه، وهو الخنزير، فيكون التقدير: فإنه -أي: الخنزير، بما فيه جلده- نجس. وقاس الكلب عليه بجامع النجاسة. قال النووي في شرح مسلم: وروي هذا المذهب عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وابن مسعود -رضي الله عنه-.
وقيل: لا يطهر من جلود الميتة شيء بالدباغ، وإلى هذا ذهب أحمد، وغيره؛ لحديث عبد الله بن حكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته: "ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب". رواه الأربعة، وأحمد. وفي رواية الشافعي، وأحمد، وأبي داود: قبل موته بشهر. وفي رواية: بشهر، أو شهرين. وقيل: إن أحمد ذهب إلى هذا القول، ثم تركه.
- وقيل: يطهر الدباغ من جلود الميتة كل جلد لمأكول اللحم، ولا يطهر غيره.
- وذهب أبو حنيفة إلى أن جلود الميتة تطهر جميعها بالدباغ، إلا الخنزير، واحتج بما احتج به الشافعي في القول الأول، ولم يقس عليه الكلب.
ـ ورخص المالكية في الانتفاع بجلد الميتة -غير الخنزير- في الماء الطهور، واليابسات، واللبس في غير الصلاة.
- وقيل: إنه يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة، بما فيها الكلب، والخنزير، ويطهر ظاهرا وباطنا، وهو الأقوى من حيث عموم الأدلة، ولأن الكلب، والخنزير إنما حرم أكلهما، وجلودهما تدخل طهارتها في عموم الأحاديث، المستدل بها على طهارة جلود الميتة، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دبغ الإهاب، فقد طهر. رواه مسلم. وعند الأربعة بلفظ: أيما إهاب دبغ. والحديث دليل على أن الدباغ مطهر لجلد ميتة كل حيوان، كما يفيده عموم كلمة: "أيما"، وأنه يطهر ظاهره، وباطنه.
وأما حديث عبد الله بن حكيم، الذي استدل به أصحاب القول الثاني، فإنه قد أجيب عنه بأجوبة، منها: أن الحديث مضطرب، فإنه تارة يروى عن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة عن مشايخ من جهينة، عمن قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يتقيد فيه بشهر، أو شهرين، أو أربعين يوما، أو ثلاثة أيام.
وهو معل أيضا بالإرسال، فإن عبد الله بن حكيم لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو منقطع أيضا؛ لأن ابن أبي ليلى لم يسمع من ابن حكيم؛ ولذلك ترك أحمد بن حنبل القول بهذا الحديث في آخر الأمر، وكان يذهب إليه أولا.
وأيضا هذا الحديث لا يقوى على النسخ؛ لأن حديث الدباغ أصح.
ولو ثبت هنا الحديث، فالأولى أن يحمل على الانتفاع بالإهاب قبل الدبغ.
فالقول بطهارة جلود الميتة جميعها أولى؛ لعموم الأدلة.
على أن المرء لو ترك استعمال جلد الخنزير -من باب التورع-، لكان ذلك أولى له؛ لكثرة المخالفين، وإن كانت أدلة المجيزين أقوى.
والله أعلم.