السؤال
ما هو تفسير هذا الحديث: إن الله تعالى لا يقبل توبة عبد كفر بعد إسلامه. هل هذا الحديث دليل على أن الله لا يقبل توبة المرتد؟ و ما هي الدلائل التي اعتمد عليها الحنابلة على أن المرتد يقتل كافرا ولا تقبل توبته، علما أن الله سبحانه و تعالى قال: و هو الذي يقبل التوبة عن عباده. و إذا كان قولهم على أن لا توبة له في الظاهر لماذا يقتل كافرا ، ولا يصلى عليه ، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين .
أفيدونا يرحمكم الله
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما زعمت أنه مذهب الحنابلة هو من أعظم الغلط عليهم، فإن الحنابلة كغيرهم من أهل العلم يرون قبول توبة المرتد، وتكون توبته بالنطق بالشهادتين والإقرار بما جحد به إن كانت ردته بجحد معلوم من الدين بالضرورة، ويستتاب ثلاثا وجوبا على المعتمد في المذهب فإن تاب قبل منه وإلا قتل ردة.
قال في المبدع: (وتوبة المرتد) وكل كافر (إسلامه، وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله) لحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل . متفق عليه. وهذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي، فكذا المرتد، ولا يحتاج مع ثبوت إسلامه إلى الكشف عن صحة ردته. انتهى.
وقال الموفق في الكافي: ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثا يدعى فيها إلى الإسلام، وعنه: أنه يقتل من غير استتابة للخبر، ولأنه يروى: أن معاذا قدم على أبي موسى، وعنده رجل محبوس على الردة، فقال معاذ: لا أنزل حتى يقتل فقتل. والأول ظاهر المذهب؛ لما روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه: أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى، فقال له عمر: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه، فقال: ما فعلتم به؟ قال: قدمناه، فضربنا عنقه، قال عمر: فهل حبستموه ثلاثا فأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب، أو يراجع أمر الله؟ اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني، ولو لم تجب الاستتابة، لما تبرأ من فعلهم، ولأن الردة في الغالب إنما تكون لشبهة عرضت له، فإذا تأنى عليه، وكشفت شبهته، رجع إلى الإسلام، فلا يجوز إتلافه مع إمكان استصلاحه، فعلى هذا يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس، ويدعى إلى الإسلام، وتكشف شبهته، ويبين له فساد ما وقع له. انتهى.
وبه يتبين لك بطلان ما نسبته إلى الحنابلة من عدم قبول توبة المرتد، وإنما اختلف الحنابلة في قبول توبة من تكررت ردته والزنديق، فقيل لا تقبل وهو المعتمد في المذهب، وقيل تقبل كغيرهم.
قال الموفق في المقنع: وهل تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته أو من سب الله تعالى أو رسوله أو الساحر؟ على روايتين: (إحداهما) لا تقبل توبته ويقتل بكل حال والأخرى تقبل توبته كغيره. انتهى.
ولم ينفرد الحنابلة بالقول بعدم قبول توبة الزنديق ومن تكررت ردته، بل قال به مالك أيضا وغيره، ثم إن محل الخلاف في قبول التوبة إنما هو في أحكام الدنيا، وأما في أحكام الآخرة فهو إن كان صادقا في توبته نفعته عند الله تعالى.
قال في الإنصاف: محل الخلاف المتقدم، في عدم قبول توبتهم وقبولها: في أحكام الدنيا، من ترك قتلهم، وثبوت أحكام الإسلام. فأما في الآخرة: فإن صدقت توبته، قبلت بلا خلاف. ذكره ابن عقيل. انتهى.
ووجه عدم قبول توبته في الدنيا أن تكرر الردة دال على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالإسلام. ورجح الشيخ ابن عثيمين الرواية الثانية في المذهب وهي أنه تقبل توبة من تكررت ردته ولا يتعين قتله. وأما الحديث المذكور فرواه أحمد في مسنده. وقال محقق المسند: إسناده حسن. وذكره الألباني في الصحيحة برقم 2545. وهذا الحديث في معنى قوله تعالى:إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون {آل عمران:90}. وللمفسرين في الإجابة عن هذه الآية التي يشبهها الحديث المذكور والجمع بينها وبين الآيات الدالة على قبول توبة كل تائب مسالك مختلفة، ونحن نسوق لك ما ذكره العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله في دفع إيهام الاضطراب ملخصا، قال عليه الرحمة: الجواب من أربعة أوجه، الأول: وهو اختيار ابن جرير ونقله عن رفيع أبي العالية أن المعنى: إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: وأولئك هم الضالون لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهم على ارتكاب الضلال وعدم قبولها حينئذ ظاهر. الثاني: وهو أقربها عندي، أن قوله تعالى: لن تقبل توبتهم يعني إذ تابوا عند حضور الموت، ويدل لهذا الوجه أمران: الأول: أنه تعالى بين في مواضع أخر أن الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت فيتوب في ذلك الوقت، كقوله تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [4 18] . فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء.... فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيد بقيد تأخير التوبة إلى حضور الموت لوجوب حمل المطلق على المقيد، كما تقرر في الأصول. والثاني: أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله: ثم ازدادوا كفرا فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها، ونقل ابن جرير هذا الوجه الثاني الذي هو التقييد بحضور الموت عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي. الثالث: أن معنى لن تقبل توبتهم أي إيمانهم الأول، لبطلانه بالردة بعده. ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن. الرابع: أن المراد بقوله: لن تقبل توبتهم أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم. انتهى.
ثم تكلم الشيخ على توبة الزنديق ورجح القول بقبولها مطلقا فأجاد في بحثه وأفاد كعادته رحمه الله.
والله أعلم.