السؤال
فضيلة الشيخ لي سؤال من قبل، ولم يأتني الرد عليه وهو عن معنى (حمدا كثير طيبا مباركا فيه)، ومعنى (أنت السلام ومنك السلام).
أما الآن فسؤالي يا شيخ: الذين يقتلون عمدا في المشاجرات وغيرها. ويفزعون لهم القبيلة والحاكم ويعفون بدية وغيرها. شاهدت ذلك غير مرة. أليس ذلك يهون مسألة القتل بأن يكثر الفزعات والعفو ويطمئن من يريد القتل. وشكرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بين الشرع المطهر ما يلزم من قتل نفسا بغير حق، وعد ذنبه هذا من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب، وحسب متعمد القتل أن يسمع بقوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما {النساء:93}. والنصوص في تعظيم شأن هذه الكبيرة كثيرة جدا. فمن قتل نفسا مؤمنة متعمدا بغير حق فعليه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا، وعليه أن يسلم نفسه لأولياء المقتول، وهم مخيرون فإن شاؤوا اقتصوا وإن شاؤوا أخذوا الدية، وإن شاؤوا عفوا بغير دية، وهذا من محاسن الشريعة وكمالها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: اعلم أن هذه الملة ـ ولله الحمد ـ ملة وسط بين ملتين: إحداهما غلت في القصاص، والثانية فرطت فيه، وليس معنى ذلك أننا نقول: إن هاتين الشريعتين خرجتا عما شرعه الله، ولكن الله بحكمته أوجب على هؤلاء كذا، وأوجب على هؤلاء كذا، فقد ذكروا أن شريعة اليهود وجوب القصاص، وأنه لا طريق إلى العفو عن الجاني، وأن شريعة النصارى وجوب العفو عن القصاص، وأنه لا سبيل إلى القصاص. وجاءت هذه الشريعة وسطا بين الملتين، فيجب القصاص ويجوز العفو، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ في الآية: {ذلك تخفيف من ربكم} باعتبار إيجاب القصاص، {ورحمة} [البقرة: 178] باعتبار العفو، أي: من رحمة الله تعالى أن يعطي لأولياء المقتول حظا لأنفسهم يتشفون به من القاتل. انتهى.
ولو صولح أولياء المقتول على الدية جاز ، ومن سعى في طلب العفو منهم أو إقناعهم بقبول الدية فلا حرج عليه في ذلك. بل هو إحسان وفعل خير لأن العفو أفضل من القصاص . ولكن يقيد هذا عند بعض أهل العلم بما إذا لم تكن مفسدة العفو أرجح، كأن كان هذا الجاني معتديا ظالما يخشى من العفو عنه أن يتمادى في ظلمه ويسرف في عدوانه فترك العفو حينئذ أفضل.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وقوله: وعفوه مجانا أفضل ظاهر كلامه أنه أفضل مطلقا، سواء كان هذا الجاني ممن عرف بالظلم والفساد، أم ممن لم يعرف بذلك؟ لكن الصواب بلا شك ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حيث قال: إن العفو إحسان، والإحسان لا يكون إحسانا حتى يخلو من الظلم والشر والفساد؛ فإذا تضمن هذا الإحسان شرا وفسادا أو ظلما، لم يكن إحسانا ولا عدلا، وعلى هذا فإذا كان هذا القاتل ممن عرف بالشر والفساد فإن القصاص منه أفضل. ويدل لما قاله شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] ، وهل العافي عن المجرم الظالم المعتدي، المعروف بالعدوان، مصلح؟! لا؛ لأنه إذا عفي عنه اليوم، فقد يقتل واحدا أو عشرة غدا، فمثل هذا لا ينبغي أن يعفى عنه، وإن لم نقل بتحريم العفو، فإننا لا نقول بترجيحه. ومن هنا نعرف خطأ بعض الناس الذين عندهم عاطفة أقوى من التعقل، والعاطفة إذا خلت من التعقل جرفت بالإنسان؛ لأن العاطفة عاصفة، فلهذا يجب على الإنسان أن يحكم العقل في أموره قبل العاطفة، وإلا عصفت به عاطفته حتى أودت به إلى الهلاك، فبعض الناس إذا حدثت من إنسان حادثة سير، وما أشبه ذلك، فإنه يعفو عن الدية سريعا، وهذا خطأ عظيم، أما إذا كان الميت عليه دين، أو كان الورثة قصارا فإن العفو حرام بلا شك، والعجب أن بعض الورثة يعفون ولا يسألون هل عليه دين أو لا؟ والدين مقدم على حق الورثة. وأما إذا لم يكن عليه دين، والورثة كلهم مرشدون، فإنه يجب علينا أن نتعقل وننظر، هل هذا الرجل من المتهورين الذين لا يبالون، والذين يذكر عنهم أنهم يقولون: نحن لا نبالي، الدية في درج السيارة!! فمثل هذا لا يقابل بالعفو، بل ينبغي أن يقابل بالشدة؛ حتى يكون رادعا له، ولأمثاله من المتهورين. ودليل المؤلف على أن العفو أفضل، قوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة: 237] ، وقوله في وصف المتقين: {والعافين عن الناس} [آل عمران: 134] ، ولكنا نقول: إن الله تعالى يقول: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} فإذا كان في العفو مخالفة للتقوى، فكيف يكون أقرب للتقوى؟! وقوله تعالى: {والعافين عن الناس} أعقبه تعالى بقوله: {والله يحب المحسنين} فإذا لم يكن العفو إحسانا فإن صاحبه لا يمدح. انتهى.
وإنما نقلناه بطوله لأهميته. فإذا علمت هذا تبين لك الحال التي يرجح فيها العفو عن القاتل إما مطلقا وإما إلى الدية والحال التي لا يرجح فيها .
والله أعلم.