جواب شبهة حول الظلم المنفي عن الله تعالى

0 1352

السؤال

الجزء الأول : فضيلة المشائخ الكرام قد أرسلت لكم سؤالا وكان صدره ما يلي: (يثير بعض الملاحدة بعض الشبهات ومنها مسألة وقوع المصائب على الحيونات وهي غير مكلفة، وعدم تعويضها في الآخرة,.....السؤال)وقمتم بالرد علي مشكورين ورقم الفتوى 2336554 وكانت بعنوان لا يفعل الله شيئا إلا لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وقد ذكرتم في نهاية الإجابة ما يلي: (هذا هو كلام ابن تيمية وابن القيم فلا ندري من أين نسبت هذا الكلام المذكور بالسؤال إليهما.) وأنتم تقصدون قولي في السؤال (فهل هذا يعني أن من قال (بأن الله لو عذب خلقه الصالحين وأدخلهم النار وعاقب المطيع وعذبه لكان ظالما سبحانه) بأن قوله خطأ وإن كان مذهب ابن تيمية وابن القيم وغيرهم؟)
فللفائدة أذكر لكم مايلي وسأقوم بإرسال رسالتين لنستوعب النقول، والرجاء منكم أن تردوا على سؤالي هذا وتذكرون لي عبر الإيميل ما ترجح عندكم فأنا أثق بترجيحاتكم :
فصل في بيان الظلم المنفي عن الله:
قال ابن تيمية في قوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) (هو سبحانه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته....انتهى). ويقول ابن القيم: (فإن الآية إنما سيقت لبيان توحيده سبحانه وبطلان إلهية ما سواه، وأن كل من عداه مربوب مأمور منهي مسؤول عن فعله، وهو سبحانه ليس فوقه من يسأله عما يفعله، قال تعالى: أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فلم تكن الآية مسوقة لبيان أنه لا يفعل بحكمة ولا لغاية محمودة مطلوبة بالفعل، وأنه يفعل ما يفعله بلا حكمة ولا سبب ولا غاية، بل الآية دلت على نقيض ذلك، وأنه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وحمده وأن أفعاله صادرة عن تمام الحكمة والرحمة والمصلحة، فكمال علمه وحكمته وربوبيته ينافي اعتراض المعترضين عليه وسؤال السائلين له، وهم حملوا الآية على أنه لا يسأل عما يفعله لقهره وسلطانه، ومعلوم أن هذا ليس بمدح من كل وجه وإن تضمن مدحا من جهة القدرة والسلطان، وإنما المدح التام أن يتضمن ذلك حكمته حمده ووقوع أفعاله على أتم المصالح، ومطابقته للحكمة والغايات المحمودة، فلا يسأل عما يفعله لكمال ملكه وكمال حمده، فله الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير...انتهى). ويقول الشيخ ابن عثيمين في شرحه للسفارينية: ( وتعذيب الله سبحانه وتعالى للطائع ممتنع وإن كان يمكن أن يقع ، لكنه ممتنع شرعا ، وممتنع عقلا من وجه آخر ، ممتنع شرعا لأن الله تعالى أخبر أنه لا يظلم أحدا ، وتعذيب الطائع ظلم ، قال الله تعالى : (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) (طـه: الآية112) إذا فهو مستحيل شرعا ، وهو مستحيل عقلا بالنسبة لله عز وجل ؛ لأن الله منزه عن الظلم لذاته .فإن قال قائل : إنه جاء في الحديث : (( إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم )) ، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لن يدخل أحد الجنة بعمله )) قالوا : ولا أنت ؟ قال : (( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته )) .قلنا لا إشكال ، أما الأول : فمعناه أن الله لو عذب أهل سماواته و أرضه لعذبهم وهم مستحقون للعذاب ، وهو غير ظالم ، وهم إنما يستحقون متى خالفوا ؛ بترك الطاعة أو بفعل المعصية.
وأما الثاني : فالباء في قوله : (( بعمله )) للمعاوضة ، يعني لو رجعنا إلى التعويض لم يدخل أحد الجنة ؛ لأن الإنسان لو حوسب على أدنى نعمة من الله لهلك ، لكن برحمة الله سبحانه وتعالى ...انتهى).يتبع

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فأحسن الله للأخ السائل، وزاده على الخير حرصا. ثم نقول في محل استفساره إن تعذيب المطيع ومن لا ذنب له يعتبر من هذه الحيثية من الظلم الذي تنزه الله تعالى عنه، وأصل المسألة ما هو الصواب  في تعريف الظلم في حق الله جل وعلا . فأهل السنة لا يقصرون معنى الظلم على: (التصرف في ملك الغير، أو مخالفة من تجب طاعته). فيكون الظلم ممتنعا لذاته على الله. بل الظلم عندهم أعم من هذا، فهو: وضع الشيء في غير موضعه. فالله سبحانه قادر على الظلم، لكنه منزه عنه، وقد حرمه على نفسه، كما نقل السائل عن الحافظ ابن رجب. وقد جمع شيخ الإسلام بين المعنيين فقال في (الرسالة الأكملية): الظلم من الله إما أن يقال: هو ممتنع لذاته؛ لأن الظلم تصرف المتصرف في غير ملكه، والله له كل شىء، أو الظلم مخالفة الأمر الذي تجب طاعته، والله تعالى يمتنع منه التصرف في ملك غيره، أو مخالفة أمر من يجب عليه طاعته، فإذا كان الظلم ليس إلا هذا أو هذا، امتنع الظلم منه. وإما أن يقال: هو ممكن لكنه سبحانه لا يفعله لغناه وعلمه بقبحه، ولإخباره أنه لا يفعله، ولكمال نفسه يمتنع وقوع الظلم منه، إذ كان العدل والرحمة من لوازم ذاته، فيمتنع اتصافه بنقيض صفات الكمال التي هي من لوازمه على هذا القول، فالذي يفعله لحكمة اقتضت ذلك، كما أن الذي يمتنع من فعله لحكمة تقتضي تنزيهه عنه. اهـ.
وقال ابن القيم في (الفوائد): زعمت طائفة أن العدل هو المقدور والظلم ممتنع لذاته، قالوا: لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير، والله له كل شيء فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلا .... وأما أهل السنة فالظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه. اهـ. بتصرف يسير.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن حديث:"لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا لهم من أعمالهم".قال: يبين أن العذاب لو وقع لكان لاستحقاقهم ذلك؛ لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة من لم يذنب. وكذلك قوله تعالى: {وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد}. يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلما؛ لاستحقاقهم ذلك وإن الله لا يريد الظلم. اهـ. 
 

  وقد تكلم ابن القيم في (شفاء العليل) في هذا الحديث وأوسعه بيانا وذكر مذاهب الناس فيه، فقال: هذا الحديث حديث صحيح، رواه الحاكم في صحيحه، وله شأن عظيم، وهو دال على أن من تكلم به أعرف الخلق بالله وأعظمهم له توحيدا وأكثرهم له تعظيما، وفيه الشفاء التام في باب العدل والتوحيد؛ فإنه لا يزال يجول في نفوس كثير من الناس كيف يجتمع القضاء والقدر والأمر والنهي؟ وكيف يجتمع العدل والعقاب على المقضي المقدر الذي لا بد للعبد من فعله؟ ثم سلك كل طائفة في هذا المقام واديا وطريقا. اهـ.
وذكر كلاما طويلا ومفيدا، ثم أطال النفس في تقرير عظيم إحسان الله إلى خلقه وإنعامه عليهم بما لا يقدرون عن إحصائه فضلا عن شكره وأداء حق عبوديته، وأنه لا ينجو أحد منهم بعمله، ثم قال رحمه الله: فعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم ببعض حقه عليهم. اهـ.
وقال في آخر الباب: وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه ولا يقوم بذلك أحد، كان حقه سبحانه على كل أحد وله المطالبة به، وإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذبه، فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه، فإن لم يحفظهم هلكوا، وإن لم يرزقهم هلكوا، وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا. اهـ.
وقال في (مفتاح دار السعادة): لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان ذلك تعذيبا لحقه عليهم وكانوا إذ ذاك مستحقين للعذاب؛ لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم. اهـ. 
وأما ابن رجب فنحا نحوا آخر في (جامع العلوم والحكم) حيث قال: في هذا الحديث نظر، ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم. وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم، لقدر لهم ما يعذبهم عليه، فيكون غير ظالم لهم حينئذ. اهـ.
وقد أجاب الشيخ ابن عثيمين في (شرح العقيدة السفارينية)عن هذا الحديث فقال: الجواب عنه يكون من أوجه: أولا: ينظر في صحة الحديث. ثانيا: فإذا صح كان المعنى أن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان تعذيبه إياهم في غير ظلم، أي لكان تعذيبه إياهم بسبب منهم وهو المعصية. ثالثا: لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، وذلك بأن يقابل إحسانه بإحسانهم، فإنه إذا قابل إحسانه بإحسانهم صار إحسانهم ليس بشيء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحد الجنة بعمله" أي من باب المقابلة، لأن الله لو حاسبنا على وجه المناقشة لكان فعلنا للخيرات دينا علينا، لأنه هو الذي من علينا بذلك، وحينئذ لو عذبنا في هذه الحال أو من هذا الوجه لعذبنا وهو غير ظالم، هذا إذا صح الحديث، وعلى ذلك فلا يكون في هذا إشكال. اهـ.
وأما أصل الموضوع وهو مسألة إيلام الحيوان، فنزيدك على ما سبق في الفتوى: 156381،  ما قال ابن الجوزي في (صيد الخاطر): أترى يظن الظان أن التكاليف غسل الأعضاء برطل من الماء، أو الوقوف في محراب لأداء ركعتين؟! هيهات! هذا أسهل التكليف! وإن التكليف هو الذي عجزت عنه الجبال، ومن جملته: أنني إذا رأيت القدر يجري بما لا يفهمه العقل، ألزمت العقل الإذعان للمقدر، فكان من أصعب التكليف، وخصوصا فيما لا يعلم العقل معناه، كإيلام الأطفال، وذبح الحيوان، مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك، والآمر به أرحم الراحمين، فهذا مما يتحير العقل فيه، فيكون تكليفه التسليم وترك الاعتراض، فكم بين تكليف البدن وتكليف العقل. اهـ.
وقال أيضا: القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس يقف على المرض والأذى في البدن، بل هو يتنوع، حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر، فمن ذلك ... تسليط الكفار على المسلمين، والفساق على أهل الدين. وأبلغ من هذا إيلام الحيوان وتعذيب الأطفال؛ ففي مثل هذه المواطن يتمحض الإيمان. اهـ.
وقال في (تلبيس إبليس): وقد ألقى إبليس إلى البراهمة ست شبهات ... الشبهة الخامسة: قالوا: قد جاءت الشرائع بأشياء ينفر منها العقل فكيف يجوز أن تكون صحيحة من ذلك إيلام الحيوان، والجواب: أن العقل ينكر إيلام الحيوان بعضه لبعض فأما إذا حكم الخالق بالإيلام لم يبق للعقل اعتراض، وبيان ذلك أن العقل قد عرف حكمة الخالق سبحانه وتعالى وأنه لا خلل فيها ولا نقص فأوجبت عليه هذه المعرفة التسليم لما خفي عنه، ومتى اشتبه علينا أمر في فرع لم يجز أن نحكم على الأصل بالبطلان. ثم قد ظهرت حكمة ذلك فإنا نعلم أن الحيوان يفضل على الجماد، ثم الناطق أفضل مما ليس بناطق بما أوتي من الفهم والفطنة والقوى النظرية والعملية، وحاجة هذا الناطق إلى إبقاء فهمه ولا يقوم في إبقاء القوى مقام اللحم شيء، ولا يستطرف تناول القوي الضعيف، وما فيه فائدة عظيمة لما قلت فائدته وإنما خلق الحيوان البهيم للحيوان الكريم، فلو لم يذبح لكثر وضاق به المرعى ومات فيتأذى الحيوان الكريم بجيفته فلم يكن لإيجاده فائدة، وأما ألم الذبح فإنه يسير. وقد قيل إنه لا يوجد أصلا لأن الحساس للألم أغشية الدماغ لأن فيه الأعضاء الحساسة ولذلك إذا أصابها آفة من صرع أو سكتة لم يحس الإنسان بألم، فإذا قطعت الأوداج سريعا لم يصل ألم الجسم إلى محل الحس ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "إذا ذبح أحدكم فليحد شفرته وليرح ذبيحته. اهـ.
والله أعلم.
 

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة