السؤال
لقد بينتم في فتاوى سابقة عن الصفات التي يجب أن تكون في المبتدع لكي تقبل روايته، وكان من أبرزها أن يعرف بالصدق, وقد علمنا من حديث أن الإمام عليا رضي الله عنه لا يبغضه إلا منافق وهو صحيح من بعض الطرق.إذا الخوارج و النواصب الذين كفروا الإمام عليا وأبغضوه هم منافقون، ومعلوم من أن "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" والرسول يقول إن من صفات المنافق: إذا حدث كذب....إذا كيف يأخذ علماء الحديث الرواية ممن ثبت نفاقه من بغضه لعلي وتكفيره له والمنافق كاذب. فكيف تؤخذ رواية الكاذب؟
أرجو أن يكون رد شبهتي من الكتاب والسنة لأن شبهتي من الكتاب والسنة...فاقتفوا أثر العباس حين رد شبهات كلاب النار التي كانت من الكتاب والسنة من أقوال الكتاب والسنة أيضا وبارك الله بكم.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمبغض الإمام علي رضي الله عنه، وكذا مبغض الأنصار وغيرهم من أولياء الله الذين أمر الله بحبهم وجعل حبهم علامة على الإيمان إنما يكون منافقا إذا أبغضهم لما قاموا به من نصرة الدين، لأن هذا البغض دال على بغضه للدين الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم والذي قاموا هم بنصرته، وأما من أبغض أحدا من أولئك متأولا أو معتقدا أنه خالف الشرع المطهر وظلم وجار كما فعلت ذلك الخوارج وأشباههم فإنهم مخطئون في ذلك خطأ عظيما، وهم بذلك أهل بدعة وضلال ولكنهم ليسوا المعنيين بهذه النصوص، وهاك بعض كلام العلماء في تقرير هذا المعنى.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله:ولا ريب أن من أحب عليا لله بما يستحقه من المحبة لله، فذلك من الدليل على إيمانه، وكذلك من أحب الأنصار ; لأنهم نصروا الله ورسوله، فذلك من علامات إيمانه، ومن أبغض عليا والأنصار لما فيهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ; فهو منافق. وأما من أحب الأنصار أو عليا أو غيرهم لأمر طبيعي مثل قرابة بينهما، فهو كمحبة أبي طالب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لا ينفعه عند الله ومن غلا في الأنصار، أو في علي أو في المسيح أو في نبي فأحبه واعتقد فيه فوق مرتبته فإنه لم يحبه في الحقيقة، إنما أحب ما لا وجود له، كحب النصارى للمسيح، فإن المسيح أفضل من علي. وهذه المحبة لا تنفعهم، فإنه إنما ينفع الحب لله، لا الحب مع الله. قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله}. ومن قدر أنه سمع عن بعض الأنصار أمرا يوجب بغضه فأبغضه لذلك، كان ضالا مخطئا، ولم يكن منافقا بذلك. وكذلك من اعتقد في بعض الصحابة اعتقادا غير مطابق، وظن فيه أنه كان كافرا أو فاسقا فأبغضه لذلك كان جاهلا ظالما ولم يكن منافقا. إلى أن قال في حديث علي: ولا يبغضني إلا منافق: فهذا يمكن توجيهه، فإنه من علم ما قام به علي - رضي الله عنه - من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله، ثم أبغضه على ذلك، فهو منافق. انتهى.
وقال النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر : وفي حديث علي رضي الله عنه: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق: قد تقدم أن الآية هي العلامة، ومعنى هذه الأحاديث أن من عرف مرتبة الأنصار وما كان منهم في نصرة دين الإسلام والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم وحبه إياهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثارا للإسلام، وعرف من علي بن أبي طالب رضي الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب النبي صلى الله عليه وسلم له، وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه فيه، ثم أحب الأنصار وعليا لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه وصدقه في إسلامه لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضهم كان بضد ذلك واستدل به على نفاقه وفساد سريرته. انتهى.
وقال السندي في حاشيته على ابن ماجه: ولا يبغضني بلا سبب دنيوي يفضي إلى ذلك بالطبع، وإلا فالبغض كما يجري من المعاملات المؤدية إليه طبعا ليس من النفاق أصلا، كيف وقد سب العباس عليا في بعض ما جرى بينهما في مجلس عمر أشد سب وهو مشهور. انتهى.
ثم إن الأخذ عن المبتدعة وقبول روايتهم وشهادتهم هو ما بينه واعتمده جهابذة العلماء وأرباب تلك الصناعة، ومأخذه واضح فإن مدار قبول الرواية على العلم بصدق الراوي، فإذا تحققنا صدقه فيما يرويه فلنا روايته وعليه بدعته، ولا ريب في أن الخوارج من أبعد الناس عن الكذب فإنهم يكفرون من يرتكبه كما هو معلوم.
قال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله: إن كان فسقه بارتكاب كبيرة كقذف المحصنات ونحو ذلك فلا خلاف في عدم قبول روايته، وأما إن كان فسقه عن تأول كبعض أهل الأهواء الذين لم تبلغ بهم بدعهم الكفر البواح فاختلاف أهل الأصول والحديث في قبول رواياتهم معروف، فأما من كان منهم يرى أن الكذب لترويج بدعته جائز كالخطابية وغيرهم فلا تقبل روايته قولا واحدا، وكذلك من يدعو منهم إلى بدعته، أما الذي لا يدعو إلى بدعته ولا يرى جواز الكذب بل عرف منه الصدق والتحرز من الكذب واحترام الدين فأكثر أهل العلم على قبول روايته لأن صدقه مما يغلب على الظن. وقد روى الشيخان وغيرهما عن جماعة من المبتدعة من خوارج ومرجئة وقدرية وممن أخرج له البخاري عمران بن حطان وهو القائل في ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يمدحه على ذلك:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا.
ولقد صدق من رد عليه بقوله:
بل ضربة من غوي أوردته لظى ... وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا.
انتهى.
والله أعلم.