الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما دام الأمر قد رفع للمحكمة فأهل العلم من القضاة ببلدكم هم الأولى بالفتوى في هذا لأنهم أدرى بملابسات الموضوع .
وأما الضمان في هذا فقد ذكره كثير من أهل العلم، والدية على العاقلة إن كان للجاني عاقلة.
قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير: ( وغير المال فديته على عاقلته )
لكن محل تحمل العاقلة ما إذا كان الواجب ثلث الدية فصاعدا؛ لما رواه البيهقي في السنن الكبرى عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أنه قال : لا تعقل العاقلة ولا يعمها العقل إلا في ثلث الدية فصاعدا .
فإن كان المحكوم به أقل من ثلث الدية لم تتحمله العاقلة بل يضمنه صاحب الدابة.
قال التسولي في البهجة: (لأن العاقلة لا تحمل عمدا عداء ولا اعترافا، ولا قاتل نفسه عمدا أو خطأ، ولا ما دون الثلث كدية موضحة ، وأما ما بلغ الثلث كدية الجائفة فتحمله).
وفي المحلى : عن الشعبي أنه سئل عن رجل أوثق على الطريق فرسا عضوضا فعقر ؟ فقال الشعبي : يضمن , ليس له أن يربط كلبا عضوضا على طريق المسلمين . اهـ
وقال ابن أبي زيد القيرواني في رسالته: (والسائق والقائد والراكب ضامنون لما وطئت الدابة )
قال في الفواكه الدواني شارحا : وكيفية الضمان أن كل واحد من الثلاثة مخاطب به عند انفراده ..وأما ما كدمته بفمها أو أتلفته بذنبها أو نفخها فلا شيء فيه على واحد من السائق والقائد والراكب إلا أن يتسبب واحد منهم فالضمان عليه، ومثل تسببه لو رآها أصابت شيئا بفمها وتمكن من تخليصه قبل إتلافه ولم يصرفها لأن حفظ مال الغير واجب، وكذا يضمن صاحبها جميع ما أتلفته بفيها إذا كان شأنها الإتلاف به ولو عجز عن تخليصه الآن ، لأنه يجب عليه وضع شيء على فيها حيث اشتهرت بذلك. انتهى منه باختصار يسير.
وأما الحديث الذي ذكر السائل فقد تكلم عليه ابن حجر وحمله على الدابة السائمة التي ليس معها أحد؛ لما في رواية المسند: السائمة جبار.
قال رحمه الله: قال الشافعية: إذا كان مع البهيمة إنسان فإنه يضمن ما أتلفته من نفس أو عضو أو مال، سواء كان سائقا أو راكبا أو قائدا، سواء كان مالكا أو أجيرا أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو ذنبها أو رأسها، وسواء كان ذلك ليلا أو نهارا، والحجة في ذلك أن الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم عليها فهي كالآلة بيده ففعلها منسوب إليه سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم لا، وعن مالك كذلك؛ إلا إن رمحت بغير أن يفعل بها أحد شيئا ترمح بسببه، وحكاه ابن عبد البر عن الجمهور، وقد وقع في رواية جابر عند أحمد والبزار بلفظ السائمة جبار وفيه إشعار بأن المراد بالعجماء البهيمة التي ترعى لا كل بهيمة، لكن المراد بالسائمة هنا التي ليس معها أحد لأنه الغالب على السائمة .... اهـ
وأما مسامحة الولي في المال وإسقاطه فلا يجوز له وليس له كذلك مصالحة الجاني على أقل من المستحق إذا كان الجاني مليا. وأما لو كان معسرا فيرى بعض العلماء جواز مصالحته على أقل من بدل المتلف.
قال الخرشي في شرحه لمختصر خليل: (ليس لولي الصغير أن يعفو عن الجاني لا في عمد ولا في خطأ، نعم إن دفع الدية ، أو غيرها من ماله كان له أن يعفو، وبعبارة ، ولا يعفو أي مجانا ، أو بأقل من الدية إلا لعسر فيجوز بأقل ، أي : عسر الجاني ويحتمل عسر المجني عليه).
وقال الدردير في الشرح الكبير ممزوجا بنص المختصر: (فيجب عليه "الولي" فعل الأصلح، فإن استوت المصلحة خير، ولا يجوز له أخذ بعض الدية مع ملاء الجاني ...وليس له أن يصالح على أقل من الدية (إلا لعسر) من الجاني، وكذا الصغير (فيجوز بأقل) في المسألتين ). انتهى منه بتصرف يسير .
وبناء عليه؛ فليس لولي المجني عليه إسقاط بعض عوض الجناية ما لم ير في ذلك مصلحة للصغير مثلما إذا كان الجاني معسرا لا يستطيع دفع عوض المتلف كله، فله مصالحته على أقل منه مع مراعاة حظ الصغير ومصلحته .
والله أعلم.