السؤال
هل من الممكن أن يضل الله عبدا من بعد صلاحه ودون أن يرتكب ذنوبا ويبتليه بهذا الضلال ليرى منه مدى تشبثه بربه ومقاومته لهذا الضلال ومحاولاته للخروج منه؟.
هل من الممكن أن يضل الله عبدا من بعد صلاحه ودون أن يرتكب ذنوبا ويبتليه بهذا الضلال ليرى منه مدى تشبثه بربه ومقاومته لهذا الضلال ومحاولاته للخروج منه؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ومن هداه فبفضله، ومن أضله فبعدله، وهو لا يفعل شيئا إلا لحكمة، فأفعاله دائرة بين الفضل والعدل وبين الرحمة والحكمة والمصلحة، تبارك وتعالى، فإن قدر على عبد ضلالا فله في ذلك الحكمة البالغة والحجة الدامغة؛ كما قال تعالى: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين {الأنعام:149}.
ولله تعالى حكم بالغة في تقدير المعاصي والسيئات تعجز عن إدراكها عقول أكثر الخلق، يقول ابن القيم رحمه الله: وهذا باب عظيم من أبواب المعرفة قل من استفتحه من الناس وهو شهود الحكمة البالغة في قضاء السيئات وتقدير المعاصي، وإنما استفتح الناس باب الحكم في الأوامر والنواهي وخاضوا فيها وأتوا بما وصلت إليه علومهم، واستفتحوا أيضا بابها في المخلوقات كما قدمناه وأتوا فيه بما وصلت إليه قواهم، وأما هذا الباب فقل أن ترى لأحدهم فيه ما يشفي. انتهى.
وقد يبتلي الله عبدا بمعصية أو يقدر عليه فتنة وضلالا لما ذكر، فيكون ذلك تمحيصا له وتقريبا له من ربه، فيزداد بما حصل له قربا من الله ولجأ إليه وعلما بأسمائه وصفاته وانكسارا له وذلا له وانطراحا بين يديه وخروجا عن رؤية نفسه الظالمة الجاهلة، فيعود بعد ذلك الضلال خيرا مما كان قبل، وتكون تلك المعصية من أكبر أسباب رحمته، وهو سبحانه كما يقول ابن القيم لمحبته التوبة وفرحه بها يقضي على عبده بالذنب، ثم إن كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة، وإن كان ممن غلبت عليه شقاوته أقام عليه حجة عدله وعاقبة بذنبه، وقد عقد ابن القيم ـ رحمه الله ـ فصلا ماتعا في مفتاح دار السعادة تكلم فيه على أسرار وحكم تقدير المعاصي، ومما قال عليه الرحمة: ومنها أنه سبحانه يستجلب من عبده بذلك ما هو من أعظم أسباب السعادة له من استعاذته واستعانته به من شر نفسه وكيد عدوه ومن أنواع الدعاء والتضرع والابتهال والانابة والفاقة والمحبة والرجاء والخوف وأنواع من كمالات العبد تبلغ نحو المائة، ومنها ما لا تدركه العبارة، وإنما يدرك بوجوده فيحصل للروح بذلك قرب خاص لم يكن يحصل بدون هذه الأسباب، ويجد العبد من نفسه كأنه ملقى على باب مولاه بعد أن كان نائيا عنه وهذا الذي أثمر له أن الله يحب التوابين وهو ثمرة لله أفرح بتوبة عبده، وأسرار هذا الوجه يضيق عنها القلب واللسان، ومنها أنه سبحانه يستخرج بذلك من عبده تمام عبوديته، فإن تمام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلا لله وانقيادا وطاعة، ومنها أن العبد يعرف حقيقة نفسه وأنها الظالمة وأن ما صدر منها من شر فقد صدر من أهله ومعدنه، إذ الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير وعلم وهدى وإنابة وتقوى فهو من ربها تعالى هو الذي زكاها به وأعطاها إياه لا منها. انتهى مختصرا.
ولتنظر تتمته في مفتاح دار السعادة فإنه نفيس جدا، وبالجملة فالله لا يضل من أضل إلا لحكمة، وقد يكون من حكمة إضلاله لعبده أن يرجعه إليه ذليلا منكسرا عارفا بقدر نفسه وأنها ظالمة جاهلة، وأن ما فيها من خير فمن الله وحده فتكون العبرة بكمال نهايته لا بنقص بدايته.
والله أعلم.