الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس هذا القول بدعة ولا كذبا، بل هو مقتضى ظاهر طائفة من الأدلة الشرعية، وقد نقل الإجماع عليه غير واحد من أهل العلم، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في الفتوى رقم: 160793.
ومن ذلك أيضا قول البجيرمي في حاشيته على الخطيب: أفضل الخلق على الإطلاق نبينا إجماعا، ثم الخليل، ثم الكليم، ثم عيسى، ثم نوح، ثم باقي المرسلين، ثم الأنبياء، ثم الرسل من الملائكة، ثم باقيهم، ثم صلحاء المؤمنين. اهـ.
ومما ورد من الأسئلة للجنة الدائمة للإفتاء: هل نقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خير البشر أو خير الخلق؟ وهل هناك دليل على أنه خير الخلق، كما يقول كثير من الناس؟ فأجابوا: جاء في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة بيان عظم قـدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه تعالى من خلال الفضائل الجليلـة والخصائص الكريمة التي خصه الله بها مما يدل على أنه أفضل الخلق وأكرمهم على الله، وأعظمهم جاها عنده سبحانه، قال الله سبحانه: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ـ وأجنـاس الفضل التي فضله الله بها يصعب استقصاؤها ... مما جعل العلماء يتفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم الخلق جاها عند الله تعالى، قـال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاها عند الله، لا جاه لمخلوق أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، فمما ذكر وغيره يتبين أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء، بل وأفضل الخلق، وأعظمهم منزلة عند الله تعالى. اهـ.
وسئل ابن عليش المالكي: هل هناك مخلوق أفضل من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ وإذا قلت: لا مخلوق أفضل منه، فما تقول فيمن اعتقد أن مخلوقا أفضل منه صلى الله عليه وسلم، وما الحكم فيه؟ فأجاب: أجمع المسلمون على أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من باقي المخلوقين من الإنس والملائكة والجن، وشاعت أفضليته وذاعت وصارت كالمعلومات الضرورية حتى عند العوام ... فيجب على كل مكلف اعتقادها، ومن لم يعتقدها وجحدها بعد التعليم فهو كافر مرتد فيستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب نجا؛ وإلا قتل بالسيف، قال البرهان اللقاني في شرح قوله في جوهرة التوحيد: وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمل عن الشقاق أفضليته صلى الله عليه وسلم على جميع المخلوقات مما أجمع عليه المسلمون وأقام عليه قواطع الأدلة المحققون، قال البدر الزركشي: وهو مستثنى من الخلاف في التفصيل بين الملك والبشر، ثم قال اللقاني: صريح كلامهم وظواهره كقول النووي: لا بد من اعتقاد التفضيل مفيدة لوجوبه، وانظر ما حكم من لم يعتقده كذلك فإني لا أستحضره الآن، ولا يبعد تفسيقه وتبديعه إن أصر عليه بعد العلم، وأما خرق الإجماع ففيه ما يأتي ... اهـ.
وراجع الفتوى رقم: 40462.
ولسنا نرى مع ذلك كفر من خالف في ذلك، وإن كنا نعتقده ونقرره، وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 172031.
وهنا ننبه على أن الفرق بين الحكم بكونه صلى الله عليه وسلم أفضل البشر أو سيد ولد آدم، وبين إطلاق ذلك في عموم الخليقة، فالأول قد جاءت به النصوص الجلية وصحت فيه الآثار واشتهرت، وأما الثاني فدليله مما يخفى ويدق استنباطه ولذلك توقف فيه بعض أهل العلم، قال الشيخ ابن عثيمين في لقاءات الباب المفتوح: المشهور عند كثير من العلماء إطلاق أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق.. لكن الأحوط والأسلم أن نقول: محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأفضل البشر، وأفضل الأنبياء، أو ما أشبه ذلك اتباعا لما جاء به النص، ولم أعلم إلى ساعتي هذه أنه جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق مطلقا في كل شيء... فالأسلم أن الإنسان في هذه الأمور يتحرى ما جاء به النص، مثلا لو قال قائل: هل فضل الله بني آدم عموما على جميع المخلوقات؟ قلنا: لا، لأن الله تعالى قال: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في لبر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا {الإسراء/70} لم يقل: على كل من خلقنا، فمثل هذه الإطلاقات ينبغي على الإنسان أن يتقيد فيها بما جاء به النص فقط ولا يتعدى، والحمد لله نحن نعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأشرف الرسل وأفضلهم وأكرمهم عند الله عز وجل، وأدلة ذلك من القرآن والسنة الصحيحة معروفة مشهورة، وأما ما لم يرد به دليل صحيح فإن الاحتياط أن نتورع عنه، لكنه مشهور عند كثير من العلماء، تجدهم يقولون: إن محمدا أشرف الخلق. اهـ.
وقال في شرح العقيدة السفارينية: إن مراد المؤلف أفضل العالم من البشر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: أنا سيد ولد آدم ـ أما من سواهم فإننا نتوقف، وإن كنا يغلب على ظننا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق على الإطلاق.. اهـ.
وأما قول السائل ـ غفر الله له: ابن تيمية يقول: إن محمدا كذب على الله تواضعا ـ فهذا من سوء الفهم، وإلا فتسمية هذا كذبا لا وجه له، فمراد شيخ الإسلام واضح من سياق كلامه، ولا نعلم أحدا من المعتبرين من أهل العلم خالفه في ذلك، وقد نقل الإجماع على استثناء النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: خير البرية.. ذاك إبراهيم، قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: وهذا من باب الهضم والتواضع مع والده الخليل عليه السلام، كما قال: لا تفضلوني على الأنبياء.. وهذا كله لا ينافي في ما ثبت بالتواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه من أنه سيد ولد آدم يوم القيامة، وكذلك حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم: وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم. اهـ.
وقال في موضع آخر: وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة قطعا جزما لا يحتمل النقيض. اهـ.
وأما تقييد إطلاق السيد على النبي صلى الله عليه وسلم بيوم القيامة، وعدم جواز إطلاقه في الدنيا، وأن كلمة سيد عندما ينقطع التكليف عن بني آدم في الآخرة تكون بمعنى صاحب المقام الرفيع ولا تعني الأفضلية، -كما ذكر السائل- فهذا مما لا يدل عليه وضع اللغة، ولا عرف الناس، ولا غير ذلك من الاعتبارات، بل العكس هو الصحيح، فتقييد السؤدد بيوم القيامة من باب التنبيه على ما دونه، قال النووي: أما قوله صلى الله عليه وسلم: يوم القيامة ـ مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة، فسبب التقييد أن في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد، ولا يبقى منازع ولا معاند ونحوه، بخلاف الدنيا فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار وزعماء المشركين، وهذا التقييد قريب من معنى قوله تعالى: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ـ مع أن الملك له سبحانه قبل ذلك، لكن كان في الدنيا من يدعي الملك، أو من يضاف إليه مجازا، فانقطع كل ذلك في الآخرة .. وهذا الحديث دليل لتفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم، لأن مذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة، وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الآدميين وغيرهم. اهـ.
ومع ذلك فإننا نبشر السائل بأنه قد صح الحديث النبوي بإطلاق ذلك وعدم تقييده بيوم القيامة، كما في حديث أبي هريرة مرفوعا: أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع. رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني.
وأما حديث: وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ هم خير منهم ـ فهو من أدلة المعتزلة على تفضيل الملائكة على صالحي البشر. وجواب ذلك كما قال الكلاباذي في معاني الأخبار: أي خير منهم حالا، لأن الملائكة أحوالهم حالة واحدة، وهي الحالة المرضية، لقوله تعالى: يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقال: لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ـ والمؤمنون يتفاوت أحوالهم، ويختلف أوقاتهم بين طاعة وضدها، وفتور وتقصير، وجد وتوفير، فأولئك الملأ الذين هم الملائكة في أحوالهم خير من الملأ الذين هم المؤمنون، وإن لم تكن الملائكة خيرا منهم في الفضل. اهـ.
وأجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح بأجوبة أخرى، منها: أن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معا، فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب، فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع.. اهـ.
وأما مسألة المفاضلة بين الأنبياء، فهي منصوص القرآن، قال الله تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض {الإسراء: 55}.
وقال: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض {البقرة: 253}.
وراجع ذلك في الفتوى رقم: 75113.
ومما تقدم يعلم خطأ السائل في قوله: يجوز ذكر مناقب الأنبياء ولا يجوز التفضيل بينهم، لا يجوز أن تقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله، ولا يجوز أن تقول: إنه سيد المرسلين، ولا يجوز أن تقول: إنه سيد ولد آدم فقط بل تقول: إنه سيد ولد آدم يوم القيامة!!!
وننبه في الختام على أن الكلام في أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الخليقة وأنه أكرمهم على الله تعالى، ليس بدعا من القول، فقد تكلم في ذلك بعض الصحابة وأثبتوه، وتلاهم بعد ذلك التابعون، فمنهم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حيث قال: ما خلق الله عز وجل ولا ذرأ من نفس أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلا بحياته، فقال تبارك وتعالى: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون. رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده والدينوري في المجالسة، وزاد السيوطي عزوه لابن أبي شيبة وأبي يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي معا في الدلائل.
ومنهم عبد الله بن مسعود حيث قال: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وإن صاحبكم خليل الله، وإن محمدا أكرم الخلق على الله، ثم قرأ: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. رواه ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في الدلائل.
ومنهم الحبر الكبير عبد الله بن سلام، حيث قال: إن أكرم خليقة على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فقيل له: رحمك الله فأين الملائكة؟ فقال للسائل: يا ابن أخي وهل تدري ما الملائكة؟ إنما الملائكة خلق كخلق الأرض وخلق السماء وخلق السحاب وخلق الجبال وخلق الرياح وسائر الخلائق، وإن أكرم الخلائق على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه الحاكم في المستدرك وصححه، وأسد بن موسى في الزهد والبيهقي في الدلائل، وصححه الألباني.
ومن التابعين: أبو الجوزاء الربعي، حيث قال: ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أكرم البرية عنده. ذكره القاضي عياض في الشفا.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أثر عبد الله بن سلام ثم قال: وما علمت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك، وهذا هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم. اهـ.
والله أعلم.