الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن تدبر القرآن لا شك في أهميته؛ لقوله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب {ص: 29}.
وليس طلب تفهم المعاني واكتشاف أمور الإعجاز من اتباع المتشابه لأن المقصود بالمتشابه هو الأمور التي ظاهرها التعارض وليست متعارضة في الواقع، ولذلك قال ابن العربي في عارضة الأحوذي : للمتشابه أنموذجان، بيانها في كتاب المشكلين، ومن أولها في الوقائع قول الكفرة: محمد يخوفنا بنار تأكل الحجارة، ثم يقول: إن في الجنة شجرة.. وقولهم: إن محمدا يزعم أنه سار إلى الشام من مكة وعاد في ليلة، وقولهم: إن محمدا قال إن الناس وما يعبدون في النار، وقد عبدت الملائكة وعبد عيسى، وقول نصارى نجران: إنك تزعم أن عيسى كلمة الله وروحه. يعنون: فكيف ينكر علينا أنه ابنه. انتهى
وقال السعدي: {منه آيات محكمات} أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال {هن أم الكتاب} أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، {و} منه آيات {أخر متشابهات} أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة. اهـ.
واما التدبر الذي يؤدي لفهم المعاني بما فيها اكتشاف بعض أمور الإعجاز فلا حرج فيه، ولا شك أن الله تعالى قد يفتح لبعض المتدبرين فهما في القرآن لم يسبق إليه.
ففي الحديث: أن أبا جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري.
وهذا يدل على مشروعية وأهمية إعمال الفكر في استخراج الفوائد القرآنية وتدبر ما فيه من الأمور، ولكن فائدة التدبر ومقصده الأساسي تفهم معاني القرآن ومقاصده الأساسية وزيادة الايمان بما فيه من الحقائق الكبرى؛ كالإيمان بالله وبالآخرة فيزداد العبد هدى وخشية من الله واستجابة لأوامره فيوجل القلب عند تلاوة القرآن وسماع آياته؛ كما قال سبحانه: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين {يونس:57}، وقال الله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون. {الأنفال:2} .
وقال: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد {الزمر:23}، وقال تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [الحشر:21].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن بتأن وتأمل وتفاعل مع آياته، ففي صحيح مسلم عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ. وروى أبو داود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ.
فعلى المسلم أن يجعل همه زيادة الإيمان والتأثر بالقرآن مع تحري الحق فيما يدعي أنه فهمه، ولا يكون همه الاكتشافات المجردة عن الدليل بل لا بد أن يتحرى موافقة الدلالة اللغوية لما اكتشفه، وأن لا يكون فيه ما يخالف الثابت من الوحي، فإن حمل القرآن على ما لم يدل عليه من القول على الله بغير علم، وإن من الذنوب العظيمة أن يقول المرء على الله ما لا علم له به. قال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {الأعراف: 33 }.
فلا يجوز للعامي أن يتكلم في كتاب الله تعالى برأيه المجرد دون استناد إلى مرجع أو أصل، قال الترمذي: باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، وذكر فيه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ـ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأخرج من حديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ـ قال أبو عيسى: هكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم.
قال في تحفة الأحوذي: من قال في القرآن برأيه أي بغير دليل يقيني أو ظني نقلي أو عقلي مطابق للشرعي، قاله القاري. ومن قال ـ أي من تكلم ـ في القرآن أي في معناه أو قراءته برأيه أي من تلقاء نفسه من غير تتبع أقوال الأئمة من أهل اللغة والعربية المطابقة للقواعد الشرعية، بل بحسب ما يقتضيه عقله وهو مما يتوقف على النقل، وقوله: من قال في القرآن ـ أي في لفظه أو معناه برأيه أي بعقله المجرد فأصاب أي ولو صار مصيبا بحسب الاتفاق فقد أخطأ، أي فهو مخطئ بحسب الحكم الشرعي.
قال ابن حجر: أي أخطأ طريقة الاستقامة بخوضه في كتاب الله تعالى بالتخمين والحدس لتعديه بهذا الخوض مع عدم استجماعه لشروطه فكان آثما به مطلقا ولم يعتد بموافقته للصواب، لأنها ليست عن قصد ولا تحر، بخلاف من كملت فيه آلات للتفسير فإنه مأجور بخوضه فيه وإن أخطأ، لأنه لا تعدي منه فكان مأجورا أجرين كما في رواية، أو عشرة أجور كما في أخرى إن أصاب، وأجر إن أخطأ كالمجتهد، لأنه بذل وسعه في طلب الحق واضطره الدليل إلى ما رآه فلم يكن منه تقصير بوجه. اهـ.
والله أعلم.