السؤال
في كتاب الدارمي في الرد على المريسي, يقول: إن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله, وأنا أؤمن أن الله على العرش فوق السماوات, ولكن لا أقول: إن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله؛ لأني بهذا أكون قد قست الله على المخلوقين - تعالى الله عن ذلك - فالمخلوق الذي في الطائرة أقرب إلى رأس الجبل من أسفله, لكن الله الذي هو فوق عرشه لا أقول عنه ذلك؛ لأن علوه ليس كعلو المخلوق, كي أقيسه عليه, وفي هذا تشبيه لله بخلقه, وهو ليس كمثله شيء, حتى أن بعض المبتدعة استهزؤوا, وقالوا: إن الذي يسكن في الطابق العاشر أقرب إلى الله من الذي يسكن في التاسع, فهل أخطأت بقولي هذا؟ وهل أخطأ الدارمي في قوله؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن قرأ كلام الإمام الدارمي بتمامه استبان له مراده، قال ـ رحمه الله ـ : ثم أكد المعارض دعواه في أن الله في كل مكان بقياس ضل به عن سواء السبيل, فقال: ألا ترى أن من صعد الجبل لا يقال له: إنه أقرب إلى الله؟ فيقال لهذا المعارض المدعي ما لا علم له: من أنبأك أن رأس الجبل ليس بأقرب إلى الله تعالى من أسفله؟ لأنه من آمن بأن الله فوق عرشه فوق سماواته علم يقينا أن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله، وأن السماء السابعة أقرب إلى عرش الله تعالى من السادسة، والسادسة أقرب إليه من الخامسة، ثم كذلك إلى الأرض, كذلك روى إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن ابن المبارك أنه قال: "رأس المنارة أقرب إلى الله من أسفله" وصدق ابن المبارك؛ لأن كل ما كان إلى السماء أقرب كان إلى الله أقرب, وقرب الله إلى جميع خلقه أقصاهم وأدناهم واحد لا يبعد عنه شيء من خلقه, وبعض الخلق أقرب من بعض, على نحو ما فسرنا من أمر السموات والأرض، وكذلك قرب الملائكة من الله، فحملة العرش أقرب إليه من جميع الملائكة الذين في السموات والعرش أقرب إليه من السماء السابعة، وقرب الله إلى جميع ذلك واحد، هذا معقول مفهوم إلا عند من لا يؤمن أن فوق العرش إلها، ولذلك سمى الملائكة المقربين, وقال: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}, فلو كان الله في الأرض كما ادعت الجهمية ما كان لقوله: {الذين عند ربك} معنى، إذ كل الخلق عنده ومعه في الأرض بمنزلة واحدة، مؤمنهم وكافرهم. اهـ.
فهو يقرر في كلامه مذهب أهل السنة في علو الله بذاته على خلقه، ويرد مذهب الجهمية ومن وافقهم في كون الله عز وجل في كل مكان بذاته ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ وقد قرر خلال ذلك أن كل ما كان إلى السماء ـ التي هي جهة العلو ـ أقرب، كان إلى الله أقرب, وأما الله تعالى فقربه إلى جميع خلقه أقصاهم وأدناهم واحد, فجمع ـ رحمه الله ـ بين إثبات تفاوت الخلق في قربهم من الله بحسب علوهم، وبين إثبات أن قرب الله إلى جميعهم واحد، وليس كمثل الله شيء,
ومما يوضح ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: أهل السنة والجماعة يثبتون أن الله على العرش، وأن حملة العرش أقرب إليه ممن دونهم، وأن ملائكة السماء العليا أقرب إلى الله من ملائكة السماء الثانية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء صار يزداد قربا إلى ربه بعروجه وصعوده، وكان عروجه إلى الله لا إلى مجرد خلق من خلقه، وأن روح المصلي تقرب إلى الله في السجود وإن كان بدنه متواضعا, وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب. اهـ.
فإذا استشنع أحد أن يقال: رأس الجبل أقرب إلى الله تعالى من أسفله, أو: رأس المنارة أقرب إلى الله من أسفلها, قيل له: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به إلى سدرة المنتهى أقرب إلى الله من آحاد الناس في الأرض؟ فإن قال: نعم، فقد أثبت أصل ما استشنعه من تفاوت الخلق قربا وبعدا من الله بحسب قربهم من السماء جهة العلو, وإن قال: لا، خالف الفطرة والعقل والشرع.
وكذلك الحال في ما ذكره الإمام الدارمي وشيخ الإسلام ابن تيمية من كون ملائكة كل سماء أقرب إلى الله من ملائكة السماء التي دونها.
والله أعلم.