السؤال
ما رأيكم في إذا ما تعلق إنسان بشيء من المباحات، وكان أكثر أوقاته شغلا بهذا المباح.
أيترك هذا المباح بالكلية أم يجتهد في الاعتدال فيه؟
فأنا عندما أمارس رياضة كمال الأجسام فإني أبالغ في ممارستها، وتأخد أكثر وقتي إما في الممارسة، وإما في المعلومات عنها والخبرة فيها، وأحيانا تدخل في قلبي بعض التجبر "أني أقوى من غيري", لكن لم يظهر مني ظلم أو طغيان على أحد قط, ولكني أكون أكثر غضبا في داخلي إذا ما أغضبني أحد عندما أمارس هذه الرياضة.
مع العلم أني أمارس هذه الرياضة في بيتي، أي ليس في صالة فيها منكرات, وأني لم ولن أتناول مكملات غذائية قط، وأنا فخور بهذا, وأني لم أطغ على أحد قط بقوتي، لكني أكون أكثر حدة عند ممارسة هذه الرياضة.
مع العلم أن جسدي يحرق سعرات عالية, أي أن معظم الرياضات الخفيفة كالجري وغيره تجعلني أكثر نحافة، وتفقدني العضلات في جسدي.
فما رأيكم أأترك هذه الرياضة"كمال الأجسام" بالكلية لله أم أجتهد في الاعتدال فيها.
وهذا أيضا يبقى سؤال عام لمن شغله مباح عن الدار الآخرة هل يتركه بالكلية أم يجتهد في اقتلاع تعلقه من قلبه ثم يقبل عليه؟
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجواب سؤالك مبني على تعيين معنى الاعتدال.
جاء في (المعجم الوسيط): (اعتدل) توسط بين حالين في كم أو كيف، أو تناسب، يقال: ماء معتدل، بين الحار والبارد. وجو معتدل، بين الحرارة والبرودة. وجسم معتدل، بين الطول والقصر، أو بين البدانة والنحافة. اهـ.
وراجع الفتوى رقم: 58081.
والاعتدال والوسطية هي صفة هذه الأمة المباركة، قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا [البقرة: 143].
قال ابن الجوزي في (زاد المسير): الوسط: العدل، قاله ابن عباس، وأبو سعيد، ومجاهد، وقتادة. وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل الخيار، ومنه قوله تعالى: (قال أوسطهم) أي: أعدلهم وخيرهم ... وأصل ذلك: أن خير الأشياء أوساطها، والغلو والتقصير مذمومان. اهـ.
والمسلم الموفق هو الذي يؤدي إلى كل ذي حق حقه، كما جاءت السنة النبوية: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. رواه البخاري.
وبالنسبة للأخ السائل، فعليه أن ينظر إلى ممارسته لهذه الرياضة، فإن كان يستطيع أن يعتدل فيها قصدا وكما وكيفا، بحيث تنفعه ولا تضره، لا في خلقه ولا خلقه، فليجتهد في ذلك وليحافظ عليه، وهذا ما نود أن يوفق إليه السائل. علما بأن مرادنا بالاعتدال في القصد: أن تكون نيته ومقصده من ورائها مقصدا شرعيا، فإنها عندئذ لا تبقى مباحة، بل تكون مستحبة؛ وراجع في ذلك الفتوى رقم: 5921.
وأما إن كان لا يستطيع أن يصل إلى حد الاعتدال، بل تطغى عليه في وقته، وتشغل عليه فكره، وتؤثر سلبا في خلقه، فتركها خير له وأولى به. فإنها بهذه المثابة تعتبر عائقا عن تحقيق كمال العبودية لله رب العالمين. وقد جرت سنة الفضلاء، من الأنبياء والصلحاء، أنهم لا يبقون على ما يشغلهم عن تحقيق عبودية الله تعالى بمفهومها الشامل.
قال العراقي في (طرح التثريب): جرت عادة الأنبياء والصالحين بإخراج ما شغلهم عن بعض العبادات عن ملكهم رأسا، وكذلك ما أعجبهم من ملكهم، كما قال الله تعالى في حق سليمان صلى الله عليه وسلم: {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق}. وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم الخميصة عن ملكه، ورمى بالخاتم أيضا لما شغله، كما رواه النسائي من حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما ولبسه، قال: شغلني هذا عنكم منذ اليوم، إليه نظرة، وإليكم نظرة. ثم ألقاه" ... وروينا في الزهد لابن المبارك عن مالك عن أبي النضر قال: انقطع شراك نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصله بشيء جديد، فجعل ينظر إليه وهو يصلي، فلما قضى صلاته قال: انزعوا هذا واجعلوا الأول مكانه. فقيل: كيف يا رسول الله؟ قال: إني كنت أنظر إليه وأنا أصلي ... وروى مالك في الموطإ عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائطه (بستانه)، فطار دبسي (نوع من الحمام) فطفق يتردد يلتمس مخرجا، فأعجبه ذلك فجعل يتبعه ببصره ساعة ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة. فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة، وقال: يا رسول الله؛ هو صدقة لك فضعه حيث شئت. اهـ.
وفي هذا جواب على السؤال العام عمن شغله مباح عن الدار الآخرة.
وقد عقد ابن القيم في (الفوائد) فصلا عن أن حصول المطلب الأعلى موقوف على همة عالية ونية صحيحة، فمن فقدهما تعذر عليه الوصول إليه، ثم قال: مدار الشأن على همة العبد ونيته، وهما مطلوبه، ولا يتم له إلا بترك ثلاثة أشياء:
ـ العوائد والرسوم، والأوضاع التي أحدثها الناس.
ـ الثاني: هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها.
ـ الثالث: قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعلق بالمطلوب.
والفرق بينها أن العوائق هي الحوادث الخارجية، والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها. وأصل ذلك: ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام، والشراب، والمنام، والخلطة، فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه، ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه. اهـ.
والله أعلم.