السؤال
يقول الله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.
1- هل العرض هنا عرض إلزامي أم اختياري؟
2- إن كان العرض إلزاميا فهل الإنسان لديه الاختيار داخل اختبار لم يختر دخوله من الأساس ؟
وماذا لو أن الإنسان يريد أن يكون عدما ولا يحاسب ولا يدخل الدنيا ( كما يفعل المنتحرون )؟
3- إن كان العرض اختياريا فمن اختاره ؟ وإن كان سيدنا آدم عليه السلام قد اختاره فلماذا نحمل نحن الأمانة ونورثها عنه؟ ففي المسيحية يرثون خطأ آدم عليه السلام ونحن كيف نرث حملا تحمله أبونا ؟
4- قرأت أننا كنا في أصلاب سيدنا آدم عند عرض الأمانة، وبالتالي أنها عرضت علينا. لا أعترض أننا كنا في أصلابه وذلك من علم الغيب، ولكن كيف تعرض الأمانة على العدم ويختارها ( إن كان اختارها ) ؟
5- أليس الإنسان ظلوما جهولا بهذا الاختيار فلماذا لا يوجد خيار بالانصياع لأمر الله دون الدنيا كما فعلت السموات والأرض؟ وفي الآية التي تليها : (( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما )) 6
- فعلام تبين لام التعليل هنا ؟
7- ولماذا ( وهو لا يسأل لماذا ولكن أريد أن أفهم ) لماذا خلق الله الكافر وهو يعلم أنه سيكون كافرا وأنه سيدخل النار، والكافر لم يكن يعلم ذلك ولو كان يعلم ما اختار دخول الدنيا ؟ لماذا لم يرحمه الله بألا يخلقه من الأساس ؟ لماذا يخلقه سبحانه ليلاقي مصير العذاب ؟ وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه الآية مما أشكل على المفسرين فاختلفوا فيها اختلافا شديدا، حتى قال العلامة ابن عاشور في (التحرير والتنوير):عدت هذه الآية من مشكلات القرآن، وتردد المفسرون في تأويلها ترددا دل على الحيرة في تقويم معناها. ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العرض على السموات والأرض والجبال، وإلى معرفة معنى الأمانة، ومعرفة معنى الإباء والإشفاق. اهـ. ونحن ننقل للأخ السائل عيون ما ذكره المفسرون مما يزيل ـ إن شاء الله ـ أصل إشكاله.
قال القرطبي في تفسيره: قال العلماء: معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة على القول الأخير. وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام. والعرض على الإنسان إلزام. وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل، أي أن السموات والأرض على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل. وهذا كقوله: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) [الحشر: 21]- ثم قال: (وتلك الأمثال نضربها للناس) [الحشر: 21]. قال القفال: فإذا تقرر في أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه. وقال قوم: إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فعبر عن هذا المعنى بقوله: (إنا عرضنا الأمانة) الآية. وهذا كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه. وقيل: (عرضنا) بمعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة، ورجحت الأمانة بثقلها عليها ... اهـ.
وقد نحا ابن عاشور هذا المنحى في تفسير الآية وحملها على مدلول الاستعارة التمثيلية، وتعرض لجواب ما استشكله السائل. فقال: حقيق بنا أن نقول: إن هذا العرض كان في مبدأ تكوين العالم ونوع الإنسان؛ لأنه لما ذكرت فيه السموات والأرض والجبال مع الإنسان، علم أن المراد بالإنسان نوعه؛ لأنه لو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لما كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة ارتباط بتعذيب المنافقين والمشركين، ولما كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانة حكمة مناسبة لتصرفات الله تعالى. فتعريف الإنسان تعريف الجنس، أي نوع الإنسان. والعرض: حقيقته إحضار شيء لآخر ليختاره أو يقبله، ومنه: عرض الحوض على الناقة، أي عرضه عليها أن تشرب منه، وعرض المجندين على الأمير لقبول من تأهل منهم ... فقوله: (عرضنا) هنا استعارة تمثيلية لوضع شيء في شيء؛ لأنه أهل له دون بقية الأشياء، وعدم وضعه في بقية الأشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء، فشبهت حالة صرف تحميل الأمانة عن السموات والأرض والجبال، ووضعها في الإنسان بحالة من يعرض شيئا على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية، أو تمثيل لتعلق علم الله تعالى بعدم صلاحية السموات والأرض والجبال لإناطة ما عبر عنه بالأمانة بها، وصلاحية الإنسان لذلك، فشبهت حالة تعلق علم الله بمخالفة قابلية السموات والأرض والجبال بحمل الأمانة، لقابلية الإنسان ذلك، بعرض شيء على أشياء لاستظهار مقدار صلاحية أحد تلك الأشياء للتلبس بالشيء المعروض عليها. وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات. فتخصيص السموات والأرض بالذكر من بين الموجودات؛ لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف الجبال على الأرض وهي منها؛ لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي تشاهد الأبصار عظمتها؛ إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية، كما قال تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله [الحشر: 21] وقرينة الاستعارة: حالية، وهي عدم صحة تعلق العرض والإباء بالسموات والأرض والجبال لانتفاء إدراكها، فأنى لها أن تختار وترفض، وكذلك الإنسان باعتبار كون المراد منه جنسه وماهيته؛ لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار، كما يقال: الطبيعة عمياء، أي لا اختيار لها، أي للجبلة وإنما تصدر عنها آثارها قسرا. ولذلك فأفعال (عرضنا) (فأبين) (يحملنها وأشفقن منها وحملها) أجزاء للمركب التمثيلي. وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة، بأن يشبه إيداع الأمانة في الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض، ويشبه عدم مصحح مواهي [جمع ماهية] السماوات والأرض والجبال لإيداع الأمانة فيها بالإباء، ويشبه الإيداع بالتحميل والحمل، ويشبه عدم التلاؤم بين مواهي السموات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها، وهو المعبر عنه بالإشفاق، ويشبه التلاؤم ومصحح القبول لإيداع وصف الأمانة في الإنسان بالحمل للثقل. اهـ.
ولما تعرض ابن عاشور لتفسير الأمانة فصل في ذلك وذكر الخلاف فيه، ثم قال: وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف: صنف الطاعات والشرائع، وصنف العقائد، وصنف ضد الخيانة، وصنف العقل، وصنف خلافة الأرض. ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع؛ لأنها ليست لازمة لفطرة الإنسان، فطالما خلت أمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفتر، فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول. ويبقى سائر الأصناف لأنها مرتكزة في طبع الإنسان وفطرته. اهـ.
وقال في قوله تعالى: (إنه كان ظلوما جهولا): معناها استئناف بياني؛ لأن السامع خبر أن الإنسان تحمل الأمانة يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإنسان بما حمله وتحمله، وليست الجملة تعليلية؛ لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإنسان فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله. فمعنى (كان ظلوما جهولا) أنه قصر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيرا: بعضه عن عمد وهو المعبر عنه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ بأسباب الوفاء وهو المعبر عنه بكونه جهولا. اهـ.
وأما اللام في قوله تعالى: (ليعذب الله المنافقين .. ) فقال: متعلق بقوله: (وحملها الإنسان) لأن المنافقين والمشركين والمؤمنين من أصناف الإنسان. وهذه اللام للتعليل المجازي المسماة لام العاقبة ... والشاهد الشائع فيها هو قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) [القصص: 8] ... والمعنى: فعذب الله المنافقين والمشركين على عدم الوفاء بالأمانة التي تحملوها في أصل الفطرة وبحسب الشريعة، وتاب على المؤمنين فغفر لهم من ذنوبهم لأنهم وفوا بالأمانة التي تحملوها. اهـ.
وقال المراغي في تفسير هذه الآية: أي إنا لم نخلق السموات والأرض على عظم أجرامها وقوة أسرها مستعدة لحمل التكاليف بتلقي الأوامر والنواهي، والتبصر في شؤون الدين والدنيا، ولكن خلقنا الإنسان على ضعف منته وصغر جرمه مستعدا لتلقيها والقيام بأعبائها، وهو مع ذلك قد غلبت عليه الانفعالات النفسية الداعية إلى الغضب، فكان ظلوما لغيره، وركب فيه حب الشهوات والميل إلى عدم التدبر في عواقب الأمور، ومن ثم كلفناه بتلك التكاليف لتكسر سورة تلك القوى وتخفف من سلطانها عليه، وتكبت من جماحها حتى لا توقعه في مواقع الردى. ثم بين عاقبة تلك التكاليف فقال: (ليعذب الله المنافقين ...) أي وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذب من خانها، وأبى الطاعة والانقياد لها، من المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات إذا رجعوا إليه وأنابوا، لتلافيهم ما فرط منهم من الجهل وعدم التبصر في العواقب، وتداركهم ذلك بالتوبة. ثم علل قبوله لتوبتهم بقوله: (وكان الله غفورا رحيما). اهـ.
فاللام لام العاقبة ، وليست لام التعليل .
وقال ابن قتيبة في (تأويل مشكل القرآن): أي عرضنا ذلك عليه ليتقلده، فإذا تقلده ظهر نفاق المنافق، وشرك المشرك، فعذبه الله به، وظهر إيمان المؤمن، فتاب الله عليه. اهـ.
وقال الشيخ الشنقيطي في (أضواء البيان): الظاهر أن المراد بالإنسان آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأن الضمير في قوله: (إنه كان ظلوما جهولا) راجع للفظ الإنسان مجردا عن إرادة المذكور منه، الذي هو آدم. والمعنى: إنه ـ أي الإنسان الذي لا يحفظ الأمانة ـ كان ظلوما جهولا، أي: كثير الظلم والجهل. اهـ.
وعلى هذا الوجه المتقدم في تفسير الآية لا يبقى من أسئلة السائل إلا سؤالان:
ـ الأول: هل الإنسان لديه الاختيار داخل اختبار لم يختر دخوله من الأساس؟ وماذا لو أن الإنسان يريد أن يكون عدما.. ؟
ـ والثاني: لماذا خلق الله الكافر وهو يعلم أنه سيكون كافرا ... ؟
أما جواب الأول: فليس للإنسان خيار، لا في مجيئه إلى الدنيا، ولا في دخوله أو خروجه من هذا الاختبار . وراجع الفتوى رقم: 134115. ولو افترضنا وقوع ذلك لاختل الأمر واضمحل، بل لبطلت الغاية التي من أجلها خلق الإنسان، وهي الابتلاء، قال تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا (هود: 7) وقال سبحانه: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا (الملك: 2).
ثم إنه لا يخفى أن التسليم لحكم الله وتفويض الأمر له، والرضا به ربا، والإيمان بقضائه وقدره، واليقين في حكمته التامة، ورحمته العامة، ولطفه الشامل، وعلمه الكامل ـ يحول بين العبد وبين هذه الوساوس، ويقطع على النفس تمردها وجموحها. فالحمد لله أولا وآخرا، باطنا وظاهرا.
قال السعدي: فله الحمد تعالى، حيث ختم هذه الآية ـ يعني قوله تعالى: (ليعذب الله المنافقين .. ) ـ بهذين الاسمين الكريمين، الدالين على تمام مغفرة الله، وسعة رحمته، وعموم جوده، مع أن المحكوم عليهم، كثير منهم لم يستحق المغفرة والرحمة، لنفاقه وشركه. اهـ.
ثم إننا ننبه على الانتحار أو الموت ليس عدما، وإنما هو انتقال من دار إلى دار، وراجع في ذلك الفتويين: 124040، 156323.
وأما السؤال الثاني فراجع في جوابه الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 183095، 53994، 135313، 8546.
والله أعلم.