بيان عدم المنافاة بين كون النبي نبي الرحمة ومجيء تشريعات فيها شدة

0 307

السؤال

النبي صلى الله عليه وسلم، قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم ـ سألني أحد عن هذا الحديث وقال لي: أين نبي الرحمة في هذا الموضوع؟ فما رد حضراتكم؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، كما قال تعالى في وصفه له: حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم {التوية: 128}.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة.

وفي الحديث الآخر: يا أيها الناس: إنما أنا رحمة مهداة. رواه الدارمي والبيهقي وصححه الألباني.

فلا يشك مسلم في كونه نبي الرحمة، والعقوبة الواردة في الحديث والتي هم النبي صلى الله عليه وسلم بإنزالها على المتخلفين عن الجماعة لا تتعارض مع كونه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، لأنه كما بعث بالرحمة بعث بالشدة والغلظة على الكافرين والمنافقين إذا لم يستجيبوا له، كما قال تعالى: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير {التوبة: 73}.

وفي الآية الأخرى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم {الفتح: 29}.

والعقوبة التي هم بفعلها كان المتوعدون بها قوما منافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر وليسوا من المسلمين, قال أبو الوليد الباجي في المنتقى شرح الموطأ: والأصح في هذا ـ والله أعلم ـ أن الذين كانوا يتخلفون عن الصلاة قوم من المنافقين ممن كان لا يعتقد فرض الصلاة ويعلم من حاله الاستخفاف بها والتضييع لها، يبين ذلك أنه لا بد أن يكون هؤلاء المتخلفون موسومين عنده بذلك إما لتكرر فعلهم لذلك أو لوحي أو لغير ذلك، لأنه لا يجوز أن يهم بذلك إلا فيمن يعتقد فيه الاستخفاف والتضييع، ولذلك أعلم صلى الله عليه وسلم من حالهم أنهم أشد مسارعة. اهـ.

ولو فرض أنهم مسلمون، فإن الشدة في مقام التربية أحيانا تكون محمودة لما يترتب عليها من الصلاح، ولذا يقسو الأب أحيانا على ولده ـ مع كونه رحيما به ـ وذلك لما يرجو من صلاح ولده وتأديبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم بمنزلة الوالد. رواه أبو داوود.

وفي صحيح مسلم ومسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي.

والشريعة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم هي شريعة الرحمة، ومع ذلك جاءت بتشريعات فيها شدة على بعض الناس؛ كجلد الزاني البكر وقتل الزاني المحصن والقاتل المتعمد، لأن الشدة هنا هي في حقيقتها رحمة بالمجتمع ككل، إذ لو انتشرت تلك الرذائل والموبقات فيه فلا تسأل عما سيلحق المجتمع من خراب ودمار, فالقسوة على واحد خير من القسوة على الأمة, ولك أن تتأمل قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب {البقرة:179}.

وهذه النظرة تخفى على من ليس من أولي الألباب، ولا يدركها من جعل قلبه محطا للشبهات والشكوك.

هذا، وننبهك أخيرا إلى أن كثيرا من أسئلتك السابقة تدور في فلك الشبهات والشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام ولا تصدر إلا عن شاك ومرتاب، فنصيحتنا لك بأن لا تصغي إلى تلك الشبهات ولا تتجادل مع أصحابها حتى لا يتشربها قلبك فيصعب عليك إخراجها, وما أجمل النصيحة التي قالها شيخ الإسلام ابن تيمية لتلميذه ابن القيم وذكرها ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة، حيث قال: قال لي شيخ الإسلام ـ رضي الله عنه ـ وقد جعلت اورد عليه إيرادا بعد إيراد: لاتجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها, ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات. اهـ.

فاعمل بهذا أيها السائل خير لك وأنفع.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى