القول الفصل في تفسير: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا...

0 713

السؤال

لماذا يعتبر دخول جميع المسلمين الجنة مؤمنهم وفاسقهم أساسا من أسس عقيدة أهل السنة والجماعة, مع أنه لم يرد في هذا نص قطعي الثبوت والدلالة؟ وأذكر فيديو رأيته يسأل فيه عالم عن آية: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما" وحديث: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده في نار جهنم يجأ بها بطنه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى في جبل فإنه يتردى في جهنم خالدا مخلدا فيها" فأجاب: من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد في النار مسلم, فشعرت بشعور غريب أقلقني, وهو: كيف يقدم هذا العالم عقيدة أهل السنة على الآية والحديث؟ ثم أتبع بأن المقصود هو القاتل الكافر! مع أننا نعلم أن الكافر في جهنم قاتلا كان أو لم يكن, ثم أكمل: أما المسلم الذي قتل نفسا مؤمنة فإنه خالد في النار مخلد فيها إلى أجل مسمى, ثم يخرج ويدخل الجنة خالدا فيها, فشعرت حينها أن هذا تفسير ينم عن هوى, فإذا اعتبرت صحة هذا التفسير فبإمكاني أن أقول: الكافرون خالدون في النار أبدا حتى أجل مسمى, وأقلب ظاهر النص كما قلبه هو؛ إذ أن كلمة خالدا تدل على البقاء في النار, كما أنني رأيت عالما آخر يقول: إذا قتله مستحلا - فقط - يخلد في جهنم - فقلت: ولكن هذا ليس في ظاهر الحديث ولا باطنه - وإذا زنا الرجل مستحلا الزنا دخل جهنم خالدا فيها, فلم لم يقل الله تعالى ولا رسوله: إن من زنا دخل جهنم خالدا فيها - جزاكم الله خيرا -.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فأهل السنة والجماعة يعتقدون أن أهل المعاصي من الموحدين - إذا ماتوا - تحت مشيئة الله: إن شاء عذبهم, وإن شاء غفر لهم, مستدلين بنص قطعي الثبوت والدلالة في ذلك, وهو قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 48] فهذا نص قاطع في التفريق بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر, ويعتقدون أنه إن عذبهم في النار فمآلهم إلى الخروج منها؛ للأحاديث المتواترة في خروج الموحدين من النار، ومنها حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني آت من ربي فبشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. متفق عليه.
ومنها حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان .. الحديث. متفق عليه.
وأما ما ثبت من الأدلة الشرعية مما فيه دلالة على خلود أحد من أهل الكبائر في النار، فقد سبق لنا بيان أن مسلك أهل الحق في ذلك هو الجمع والتوفيق بين النصوص لا ضرب بعضها ببعض، وراجع تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 137828 وتجد فيها إحالات للجواب عن خلود قاتل النفس بغير حق في النار, وراجع في مسألة المنتحر الفتوى رقم: 168453.
وإذا تبين من ذلك للأخ السائل أن أهل السنة إنما فرقوا بين الشرك وغيره من الذنوب تبعا للأدلة وتحريا للحق، لا للهوى، عرف أن القول بأن الكافرين خالدون في النار أبدا إلى أجل مسمى قول باطل؛ لكونه عريا من الحجة، مخالفا للأدلة القطعية.
وأما قول من قال: (إذا قتله مستحلا فقط يخلد في جهنم) فهو وجه ذكره بعض أهل العلم في حمل الآية، وغيره من أوجه الجمع أصح, وممن قال بذلك ابن الجوزي في كشف المشكل فذكر قول ابن عباس بأن قاتل المؤمن ليس له توبة، ثم قال: يصلح أن يجاب ابن عباس عن قوله هذا بأن هذه الآية المدنية عامة ـ يعني آية سورة النساء ـ قد دخلها التخصيص، فإنه لو قتله والقاتل كافر ثم أسلم انهدرت عنه العقوبة في الدنيا وفي الآخرة، فإذا كانت من العام المخصوص فأي دليل صلح للتخصيص وجب العمل به, ومن أسباب التخصيص أن يكون قتله مستحلا فيخلد لاستحلاله لأنه يكفر بذلك, ويقوي هذا أنها إنما نزلت في حق مسلم ارتد عن الإسلام وقتل مسلما، وقد أجاب قوم بجواب آخر فقالوا: فجزاؤه جهنم إن جازاه، وليس من ضرورة الوعيد وقوعه, وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] والوجه ما قلناه. اهـ.
وقال البغوي في تفسيره: ليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر؛ لأن الآية نزلت في قاتل وهو كافر، وهو مقيس بن صبابة, وقيل: إنه وعيد لمن قتل مؤمنا مستحلا لقتله بسبب إيمانه، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرا مخلدا في النار, وقيل: في قوله تعالى: {فجزاؤه جهنم خالدا فيها} معناه: هي جزاؤه إن جازاه، ولكنه إن شاء عذبه, وإن شاء غفر له بكرمه، فإنه وعد أن يغفر لمن يشاء, حكي أن عمرو بن عبيد - وهو معتزلي يقول بخلود مرتكب الكبيرة في النار - جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له: هل يخلف الله وعده؟ فقال: لا, فقال: أليس قد قال الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها}؟ فقال له أبو عمرو بن العلاء: من العجمة أتيت يا أبا عثمان! إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفا وذما، وإنما تعد إخلاف الوعد خلفا وذما، وأنشد:

                     وإني وإن أوعدته أو وعدته     لمخلف إيعادي ومنجز موعدي.

والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" اهـ. وذكر حديثا آخر في ذلك.
وقال النحاس في الناسخ والمنسوخ: من العلماء من قال: لا توبة لمن قتل مؤمنا متعمدا، وبعض من قال هذا قال: الآية التي في الفرقان منسوخة بالآية التي في النساء، فهذا قول, ومن العلماء من قال: له توبة؛ لأن هذا مما لا يقع فيه ناسخ ولا منسوخ؛ لأنه خبر ووعيد, ومن العلماء من قال: الله جل وعز متول عقابه - تاب أو لم يتب - إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أدخله النار وأخرجه منها, ومن العلماء من قال: المعنى فجزاؤه جهنم إن جازاه, ومن العلماء من قال: التقدير: ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلا لقتله فهذا جزاؤه؛ لأنه كافر, قال أبو جعفر: فهذه خمسة أقوال. اهـ.
ثم نسب كل قول لقائله وذكر أدلته، ثم قال: وأما القول الخامس: إن المعنى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} مستحلا لقتله فغلط؛ لأن العام لا يخص إلا بتوقيف أو دليل قاطع، وهذا القول يقال إنه قول عكرمة؛ لأنه ذكر أن الآية نزلت في رجل قتل مؤمنا متعمدا ثم ارتد اهـ.
وهذا الذي ذكره النحاس هو المتجه، قال الشيخ ابن عثيمين في فقه العبادات: روي عن الإمام أحمد أن بعض الناس يقول: إن المراد من قتل مؤمنا مستحلا لقتله، فتعجب الإمام أحمد من هذا، وقال: إنه إذا استحل قتله فإنه كافر سواء قتله أم لم يقتله، والآية علقت الحكم بالقتل. اهـ.
وذكر الشيخ ابن عثيمين خمسة أجوبة عن الآية في لقاء الباب المفتوح ثم قال: وعلى كل حال فيما أرى أن أحسن الأجوبة الوجه الأول: أن القتل عمدا للمؤمن سبب للخلود في النار، ولكن هذا السبب قد يوجد فيه ما يمنعه, فيكون في ذلك تحذير شديد أن يفعل الإنسان هذا الفعل؛ لأنه سبب للخلود في النار، فإذا فعله كان السبب موجودا محققا, والمانع غير محقق، قد لا يحصل مانع. اهـ.
وقال أبو الوليد بن رشد في المقدمات الممهدات: أما من قال: إن القاتل مخلد في النار، فقد أخطأ وخالف أهل السنة؛ لأن القتل لا يحبط ما تقدم من إيمانه, ولا ما كسب من صالح أعماله؛ لأن السيئات لا تبطل الحسنات، ومن عمل حسنة ومات على الإسلام فلا بد أن يجازيه الله على حسنته, فإنه يقول تعالى - وقوله الحق -: {ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7] {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 8] وقال تعالى: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه} [الأنبياء: 94] وقال عز من قائل: {فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47] اهـ.
وقال العظيم آبادي في عون المعبود: جمهور السلف وجميع أهل السنة حملوا ما ورد من ذلك على التغليظ, وصححوا توبة القاتل كغيره, وقالوا: معنى قوله (فجزاؤه جهنم) أي: إن شاء أن يجازيه؛ تمسكا بقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ومن الحجة في ذلك حديث الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم أتى تمام المائة إلى الراهب فقال: لا توبة لك, فقتله, فأكمل به مائة، ثم جاء آخر فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة .. الحديث. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات