شبهة حول حديث: استفت قلبك. والرد عليها

0 282

السؤال

استنادا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "واستفت نفسك ثلاث مرات, البر ما اطمأنت إليه النفس, والإثم ما حاك في النفس, وتردد في الصدر, وإن أفتاك الناس وأفتوك" فقد وجدت في نفسي عدم راحة, بل أحسست أن نفسي تتعصر, وأحس أن شيئا يأكلني من الداخل في كل مرة أطبق فيها حكم رفض مصافحة المرأة الأجنبية, خاصة في المرات الأولى, فهل هذا دليل أن هذا مخالف لمراد الله, وأن الحديث يمكن أن يكون موضوعا؟ مع العلم أن 98 في المئة من الناس تصافح, وأنك تشعر أنك في كل مرة تقابل شخصا جديدا وتقوم بذلك تعطي صورة سيئة منذ البداية عن نفسك, وتنفر الناس منك, فكثير من النساء يحسسن بالإهانة, وبغض النظر عن صحة الحديث، فقد بدأت أرى أن الأفضل للواقع المصافحة اضطرارا؛ لأنك إن دخلت مع الناس وكنت محببا إليهم فيمكن وقتها أن يأخذوا منك أكثر من أن تتصادم معهم منذ البداية, وهذا اجتهاد فردي.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالحديث الذي ذكره السائل إنما يصح الاستدلال به على عكس ما فهمه، فإن معناه أن المسلم إذا استفتى العالم عن شيء من أمر دينه فأباحه له، فلم تطمئن نفسه لذلك، فإن الأولى أن يدع ما يحز في نفسه, ثم إن هذا النوع من الاستفتاء لا يليق بكل أحد، وإنما هو متوجه في حق من استنار قلبه بنور الإيمان, وتزينت جوارحه بالاستقامة، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 199943.

وقال الشوكاني في إرشاد الفحول: أما قوله صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس" فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة, قال الغزالي: واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حرم فيجب الامتناع، ثم لا نقول على كل قلب، فرب قلب موسوس ينفي كل شيء، ورب قلب متساهل يطير إلى كل شيء، فلا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق لدقائق الأحوال، فهو المحك الذي يمتحن به حقائق الأمور، وما أعز هذا القلب. اهـ.
فالحديث إنما هو في باب الورع بترك الأمور المشتبه، على خلاف ما فهمه السائل تماما؛ ولذلك جاء في روايات أخرى ذكرها الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "استفت نفسك" قلت: كيف لي بذاك؟ قال: "تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المفتون" وفي رواية أخرى بلفظ: "ما أنكر قلبك فدعه" وفي بعضها بلفظ: "إذا حاك في صدرك شيء فدعه".

قال الشوكاني في إرشاد الفحول: من أحسن ما يستدل به على هذا الباب ـ يعني سد الذرائع ـ ما قدمنا ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن حمى الله معاصيه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه" وهو حديث صحيح, ويلحق به ما قدمنا ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك", وهو حديث صحيح أيضا، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" وهو حديث حسن، وقوله صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون" وهو حديث حسن أيضا. اهـ.
وعلى ذلك, فما قام عليه دليل واضح من أدلة الشرع فلا يدخل في هذا الباب، فلا بد أولا من طلب العلم الشرعي المبني على الأدلة، قال القاري في مرقاة المفاتيح: قال القاضي - رحمه الله - المعنى أن الشيء إذا أشكل على السالك والتبس, ولم يتبين أنه من أي القبيلين هو، فليتأمل إن كان من أهل الاجتهاد، وليسأل المجتهدين إن كان من المقلدين، فإن وجد ما يسكن إليه نفسه، ويطمئن به قلبه، وينشرح به صدره، فليأخذ به وليختره لنفسه، وإلا فليدعه, وليأخذ بما لا شبهة فيه ولا ريبة، وهذا طريقة الورع والاحتياط. اهـ.

وقد سبق أن نبهنا في الفتوى رقم: 38050 أن هذا في الأمور المشتبهة التي لم يرد فيها نص.

وأما ما جاء فيه نص من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فليس للمؤمن إلا اتباعه وطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا محل لاستفتاء القلب هنا، وميل النفس إلى غير النص، إنما هو اتباع للهوى, وراجع في حكم مصافحة المرأة الأجنبية الفتويين: 3045، 170629.

وأما مسألة مراعاة الواقع وضغوطه على حساب أحكام الشريعة فمغالطة مرفوضة، والمطلوب هو العكس، أعني إعادة صياغة الواقع بناء على أحكام الشريعة، مع التحلي بالصبر, ولين الجانب, وحسن الخلق، وبيان الحق للناس بأمثل أسلوب وأقربه، وراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 53773، 17540، 132994.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة