الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن أول معارك المسلمين مع اليهود كانت مع بني قينقاع، وكان سببها نقضهم للعهد الذي أبرموه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعلك تقصدين بسؤالك عن السبب الأساس الذي أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجله من المدينة النبوية، العمل الذي قاموا به واعتبره النبي صلى الله عليه وسلم نقضا للعهد.
وقد ذكره الإمام ابن هشام في (السيرة النبوية) فقال: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها [بضاعة لها]، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها [عورتها]، فضحكوا بها، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. اهـ.
وقال الإمام الحافظ ابن حجر في كتابه: (فتح الباري شرح صحيح البخاري): فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم [أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم] في شوال بعد وقعة بدر، فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم، فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي [ابن سلول رأس المنافقين]، (وكانوا حلفاءه) فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات. اهـ.
وبالنسبة لسؤالك عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هل كانت بوحي من الله تعالى؟ فالجواب هو: نعم، كانت بوحي من الله تعالى وأمر منه سبحانه.
فقد جاء في (السيرة النبوية) لابن هشام أن رسول الله لم يخرج من مكة إلى المدينة إلا بعد أن أذن له الله تعالى بالهجرة.
قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج عني من عندك. فقال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك؟ فداك أبي وأمي! فقال: إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله! قال: الصحبة. قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ. اهـ.
وأما الذين استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة عند دخوله إياها، فهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم.
قال ابن هشام في (السيرة النبوية): قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويمر بن ساعدة، قال: حدثني رجال من قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، وتوكفنا [انتظرنا] قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال! فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك في أيام حارة، حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من اليهود، قد رأى ما كنا نصنع، وأنا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيل [قيلة جدة الأنصار ينسبون إليها] هذا جدكم قد جاء. قال: فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وركبه الناس [أي: ازدحموا عليه] وما يعرفونه من أبي بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك. اهـ.
وأما سبب إجلاء بني النضير، فهو نقضهم للعهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحاولة اغتياله.
فقد نقل ابن هشام في (السيرة النبوية): قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، كما حدثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف. فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين، قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر، وعمر، وعلي، رضوان الله عليهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهوا إليه صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم الخبر، بما كانت اليهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم، والسير إليهم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. قال ابن إسحاق: ثم سار بالناس حتى نزل بهم.
قال ابن هشام: وذلك في شهر ربيع الأول، فحاصرهم ست ليال، ونزل تحريم الخمر. قال ابن إسحاق: فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عدو الله عبد الله بن أبي ابن سلول، ووديعة، ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، ففعل. فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. اهـ.
والله أعلم.