السؤال
أعمل موظفا، وفي المكتب الذي أعمل فيه يوجد زملاء لي، وكان يحدث في المكتب مزاح بيننا، وكثيرا ما كان المزاح يؤدي إلى خلافات وخصومة، والذي جد هذه المرة أن زملائي قاطعوني نهائيا، فلا يتحدثون معي إلا في العمل، ولا يلقون السلام علي، وأشعر أني في ذلك ممن لا ترتفع أعمالهم بسبب الخصومة، مع أني وسطت زميلا آخر لحل الخصام بيننا، إلا أنه لم يحدث أن تغير شيء. لا أريد أن أكون من الذين لا ترتفع أعمالهم بسبب خصومتهم، وأجد حرجا في مبادرتي لهم بالاعتذار أو السلام، خاصة وأني سبق أن فعلت ذلك عدة مرات، ولكن هذه المرة أجد حرجا شديدا، ولا أدري ما السبيل إلى حل يرضي الله، ويخرجني من تأنيب الضمير، والشعور بالتقصير؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمزاح الذي يفضي للخلاف والتقاطع بين الزملاء، لا يليق بالعقلاء التمادي فيه، فقد نبه أهل العلم إلى ضرورة الاقتصاد في المزاح، وعدم الإكثار منه؛ لما قد يفضي إليه مما لا تحمد عاقبته من الخلاف والشنآن.
ففي شعب الإيمان عن عبد العزيز بن أبي داود: أن قوما صحبوا عمر بن عبد العزيز فقال: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وإياكم والمزحة، فإنها تجر إلى القبيح، وتورث الضغينة، وتجالسوا بالقرآن، وتحدثوا به، فإن ثقل عليكم فحديث من حديث الرجال حسن. اهـ.
وقال الماوردي: فالعاقل يتوخى بمزاحه إحدى حالتين لا ثالث لهما: إحداهما: إيناس المصاحبين، والتودد إلى المخالطين. وهذا يكون بما أنس من جميل القول، وبسط من مستحسن الفعل. وقد قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء، وإن التقصير فيه يفض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين. والحالة الثانية: أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم، وأحدث به من هم. فقد قيل: لا بد للمصدور أن ينفث. انتهى.
وأما علاج هذا التقاطع، فهو واجب عليكم إن زاد على ثلاثة أيام، فقد ورد في صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال.
والمعنى: لا تتعاطوا أسباب البغض، ولا يتمنى بعضكم زوال نعمة بعض، سواء أرادها لنفسه أم لا، ولا تقاطعوا، ولا تولوا ظهوركم عن إخوانكم، ولا تعرضوا عنهم، فوق ثلاث ليال بأيامها.
وإنما جاز الهجر في هذه المدة وأقل منها لما جبل عليه الآدمي من الغضب، فسومح بهذا القدر ليرجع ويعود إلى عقله ورشده.
وبناء عليه؛ فلا تستسلم للشيطان في قوله لك إن بدارك برفع القطيعة فيه حرج، بل احرص على حمل نفسك على ما لا تهواه من الانقياد للشرع، وترك اتباع نزغات الشيطان الذي يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وابدأ بكسر حاجز المقاطعة، فسلم على زملائك، فإن استجابوا وتركوا القطيعة، فقد نجحتم، وإلا فإنه يكون الإثم عليهم، وسلمت أنت من الإثم. ففي الحديث: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. متفق عليه.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تفتح أبواب الجنة كل يوم اثنين وخميس، فيغفر في ذلك اليومين لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا من بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه، فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم. رواه مالك وأبو داود وصححه ابن حجر، وزاد أحمد: وخرج المسلم من الهجرة.
وقال الزرقاني في شرحه للموطأ: وخيرهما أي أفضلهما وأكثرهما ثوابا ( الذي يبدأ ) أخاه ( بالسلام ) لأنه فعل حسنة، وتسبب إلى فعل حسنة وهي الجواب مع ما دل عليه ابتداؤه من حسن طويته، وترك ما كرهه الشرع من الهجر والجفاء. قال الباجي وعياض وغيرهما: وفيه أن السلام يخرج من الهجران، وهو قول مالك والأكثرين، وقال أحمد وابن القاسم: لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولا. اهـ.
والله أعلم.