بطلان القول بوجوب الشك قبل الاعتقاد

0 713

السؤال

منذ فترة قمت بكتابة مقالتين وبدأت ألقيهما على الأهل والأقارب والأصدقاء وكنت أقول ما كتبت فتصفر من حولي الوجوه وتنطلق الألسن تمطرني باللعنات وتتسابق إلى الانتقادات عن يمين وشمال ويستغفر لي أصحاب القلوب التقية ويطلبون لي الهدى ويتبرأ مني المتزمتون ويكفرني السلفيون والمتشددون ويقولون إنني خرجت عن الدين والملة، فنغرق معا في جدل لا ينتهي إلا ليبدأ، فأطلب من مشايخنا الأعزاء الفتوى فيما كتبت وإبداء الرأى كاملا وفضلت إرسالها إلى حضراتكم لأنني أثق تمام الثقة في رأي حضراتكم وفتواكم الصائبة ـ إن شاء الله ـ لقد أرسلت المقال الأول في رسالة أخرى، وهذا هو المقال الثاني: يا جبل ما اهزك ريح ـ نسمع دائما المثل المعروف: يا جبل ما اهزك ريح ـ فالكثير فسرها على أن المقصود بالجبل هو الإنسان والمقصود بالمثل في العموم أن الإنسان لا بد ألا يستسلم للظروف وأن يثبت على مواقفه وأن يكون جسورا واثقا من نفسه وقدراته وأن يواجه كل الأمور والظروف والمشكلات دون أن يتراجع ودون التأثر بكلام الآخرين طالما كان على حق، ولكنني نظرت إلى هذا المثل بمنظور مختلف وبزاوية مختلفة تماما وتخيلت أن هذا الجبل هو الإيمان بمعناه المطلق المجرد وأن الريح هي المؤثرات والتأثيرات الخارجية وعقائد الناس والمذاهب المختلفة والأديان والوجهات الفلسفية والمقولات التاريخية والشعر والأعمال الأدبية والكتب السماوية والمؤثرات الفكرية وكلام المتكلمين وشعر الشعراء وفلسفة الفلاسفة وحكمة الحكماء، إن ما أقصده تماما هو أن الإيمان كالجبل وحتى يقال على إيمانك: ياجبل ما اهزك ريح ـ لا بد أن تكون مؤمنا تمام الإيمان بعقيدتك التي كونتها بإيمانك سواء إيمانك بدينك أو مذهبك أو آرائك أو تصرفاتك، فإذا كنت مسلما وغير مؤمن بالإسلام فبإمكان أي أحد أن يهز عقيدتك وإيمانك الضعيف ويجعلك تترد وتشك فيما اعتقدته فأنت لم تؤمن إيمانا تاما بما اعتقدته ولذلك تخيل دائما أن إيمانك هو الجبل، وعقيدتك هي الجزء الذي تحت الأرض الذي يعمل على تصلب الجزء المرئي من الجبل وجعله متماسكا لا يهوي ولا يهتز ولا يميل وإنما هو ثابت، إذن فعقيدتك مبنية على إيمان تام بما اعتقدت، ومن وجهة نظري فإنه لا يشترط أن يكون إيمانك مبنيا على إيمان أو ثقافة غيرك، فمثلا نشاهد بعض الناس يأخذون أبيات شعرية لبعض الشعراء ويطبقونها في حياتهم ويؤمنون بها إيمانا تاما لمجرد أن كلماتها متناسقة، فمثلا: قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا ـ أو من علمني حرفا صرت له عبدا ـ قول مأثور، فنجد الناس مؤمنون إيمانا تاما بهذا الكلام دون التفكر فيما يحمله من معاني، فلا تبني عقيدتك على ما آمن به غيرك فادرس وفكر قبل أن تقوم بحيازة معتقداتك في عقيدتك الثابتة واحرص على أن تجعل هذه المعتقدات إيمانات تؤمن بها إيمانا تاما تاما لتقدر على الدفاع عما آمنت به، وفي هذه الحالة يجوز أن نقول على إيمانك وعقيدتك: يا جبل ما اهزك ريح ـ لكن إذا كنت ممن استسهلوا واستنصحوا وعندما تناقشهم فيما اعتقدوا وآمنوا يقولون لك: هذا ما وجدنا عليه آبائنا وأجدادنا ـ إنهم ورثوا كل شيء عمن قبلهم حتى الإيمان والعقيدة وسأقص عليكم قصة قد قرأتها في أحد الكتب من قبل: كانت ربة المنزل تصر على قطع رأس السمكة وذيلها حين تدخلها في الفرن، وحين سألها زوجها عن السر في قطع ذيل السمكة ورأسها؟ قالت لا أدري، ولكنني رأيت أمي تصنع ذلك وحين اتصل الزوج بالأم وسألها السؤال نفسه أجابت لا أدري، ولكن أمي كانت تفعل الشيء نفسه، واتصل الزوج بالجدة، وسألها ما السر في قطع رأس السمكة وذيلها قبل إدخالها الفرن جاءه صوتها ضاحكا، وهي تقول: لقد كانت الصينية التي أضع بها السمكة صغيرة جدا لا تكفي السمكة كاملة فكنت أضطر إلى قطع ذيلها ورأسها ـ فهل هذا المقال حرام أو به شرك؟ وهل أستمر في كتابة المقالات التي بهذا السياق أم أتوقف؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فجواب هذا السؤال مرتبط بجواب السؤال أو المقال السابق للسائل وهو برقم: 2406204، وفي جواب سؤاله السابق نقول: إذا كان كاتب المقال يريد بالإيمان، الإيمان المحمود الذي ينجي معتقده عند الله تعالى، فما قاله غير صحيح، فحقيقة الإيمان  المنجي لا تكمن في حيادية صاحبه ودراسته وقناعته، وإنما تكمن في صحة المعتقد وإصابته وموافقته للحق والواقع، فمن الخطأ الواضح تسمية كاتب المقال ما عليه النصارى أو اليهود أو غيرهم من أهل الملل: إيمانا، بذلك المعنى إن كان عن دراسة وقناعة وليس عن تقليد ووراثة! فهذا مخالف للعقل والشرع معا، فكم من مريد للحق لا يصيبه، وكم من باحث عن الحقيقة لا يصل إليها، والحق المطلق لا يخضع للنسبية، وقضية الإيمان من هذا النوع، فالعبرة بصحة المعتقد وصواب التصور بغض النظر عن سبب حصوله، ومن الخطأ المحض ما جاء في هذا المقال من قول صاحبه: ما اقتنعت به عن دراسة ويقين فأنت مؤمن، سواء اخترت المسيحية أو اليهودية أو الإسلامية أو أي ديانة أو معتقد أو كنت ملحدا ـ فهذا كلام كفري ـ والعياذ بالله ـ وفيه خلط وتلبيس ومغالطة، وحسبنا في ذلك تدبر قوله تعالى: فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون* كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون* قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون* قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون* وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون* وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين {يونس: 32ـ 37}.
ومن المسائل العقدية التي لها علاقة بموضوع هذا المقال مسألة: أول واجب على المكلف، فقد ضل بعض المنتسبين للقبلة فقال: هو الشك السابق على النظر ـ أو القصد إلى النظر ـ المفضي إلى العلم بحدوث العالم!! والصواب ما عليه أهل السنة من أن أول الواجبات: الإيمان بالله تعالى وعبادته، وللشيخ عبد الله الغنيمان رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بحث مفيد في هذه المسألة، نشر في العدد الثاني والستين من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، بعنوان: أول واجب على المكلف: عبادة الله تعالى، وضوح ذلك من كتاب الله ودعوات الرسل ـ ومما قال فيه: ليس في كتاب الله أن النظر أول الواجبات، بل ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس الذين لا يحصل لهم الإيمان إلا به، كقوله تعالى: أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين، أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون {الأعراف: 184ـ 185}... والسلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، وأن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك بعد البلوغ. اهـ.

وقد بحث هذه المسألة أيضا الدكتور عبد الرحمن المحمود في أطروحته العلمية: موقف ابن تيمية من الأشاعرة ـ وكذلك الدكتورة آمال بنت عبد العزيز العمرو في أطروحتها العلمية: الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية ـ عند مصطلح الشك، ومما قالت فيه: أما القول بأن أول الواجبات هو الشك، وهو منسوب إلى أبي هاشم، فهو قول باطل لفظا ومعنى، قال أبو المعالي بعد ذكره لقول أبي هاشم: وهذا خروج منه من قول الأمة وتوصل منه إلى هدم أصله، وذلك أن كل واجب مأمور به وتقدير الأمر بالشك متناقض، إذ يثبت العلم بالأمر، واعتقاد ثبوته والعلم به مع التشكك فيه متناقضان، ومن لم يوجب الشك من المعتزلة قال إنه لا بد من حصوله وإن لم يؤمر به، والقول بالشك قبل الاعتقاد باطل، ومن وجوه بطلانه أن هذا القول مبني على أصلين:
أحدهما: أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم.

والثاني: أن النظر يضاد العلم، فإن الناظر طالب للعلم، فلا يكون في حال النظر عالما.

وكلا الأصلين باطل.

فمن فرق بين النظر في الدليل، وبين النظر الذي هو طلب الدليل، تبين له الفرق، والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول، بل قد يكون القلب ذاهلا عن الشيء ثم يعلم دليله، فيعلم المدلول، وإن لم يتقدم ذلك شك وطلب، وقد يكون عالما به ومع هذا ينظر في دليل آخر لتعلقه بذلك الدليل، فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير، لكن هؤلاء لزمهم المحذور، لأنهم إنما أوجبوا النظر لكون المعرفة لا تحصل إلا به، فلو كان الناظر عالما بالمدلول، لم يوجبوا عليه النظر، فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول، فيكون الناظر طالبا للعلم، فيلزم أن يكون شاكا، فصاروا يوجبون على كل مسلم أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه، سواء أوجبوه، أو قالوا هو من لوازم الواجب، فالقول بوجوب الشك قبل الاعتقاد قول ظاهر الفساد. اهـ.

وراجع للفائدة الفتوى رقم: 110974.
وعلى أية حال، فلا نرى الخوض في مثل هذه المسائل مناسبا لمن كان في سن ابننا السائل الذي يقول عن نفسه إنه: طالب إعدادي!! فننصحه بتعلم العلم والاجتهاد في طلبه قبل أن يكتب في مثل هذا الموضوع الشائك.
وأما هذا المقال: فما كان منه يدور في فلك الأول فقد نبهنا على ما فيه.

وأما مسألة الحث على التفكر والنظر لزيادة الإيمان والقدرة على دعوة المخالفين وإقامة الحجة عليهم والجواب عن شبهاتهم: فهذا من الأعمال الجليلة، ولكنها تحتاج إلى منهجية في طلب العلم، وراجع الفتويين رقم: 121720، ورقم: 113672.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى