الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب على المسلم أن يتلقى دينه عن المعروفين بالعلم والتقى. ومن المزالق الخطيرة أن يرعي المرء سمعه لمن يرد السنن الثابتة، ويطعن في الأحكام الشرعية، ثم يأتي ويلتمس لنفسه الشفاء من حسك الشبهات. فالمنبغي للمؤمن أن ينأى بنفسه عن سماع شبهات أهل الأهواء والبدع؛ فإن القلوب ضعيفة، فرب شبهة يسمعها الرجل فتوجب هلاكه، وقد كان أئمة السلف مع سعة علمهم يعرضون عن سماع الشبهات.
ففي جامع معمر بن راشد المنشور كملحق لمصنف عبدالرزاق قال: - أي معمر - كنت عند ابن طاووس، وعنده ابن له، إذ أتاه رجل يقال له صالح يتكلم في القدر، فتكلم بشيء فتنبه، فأدخل ابن طاووس إصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أدخل أصابعك في أذنيك واشدد، فلا تسمع من قوله شيئا، فإن القلب ضعيف. اهـ.
وقال الإمام الذهبي: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة. اهـ.
والرجل المذكور من المعلوم حاله من تكذيب للسنن المتواترة، ورد للأحكام الشرعية المجمع عليها، وطعن في الصحابة، بل إنه يطالب بإعادة النظر في الأحاكم المنصوصة في القرآن العظيم، كأنصبة المواريث.
وأما ما يتعلق برجم الزاني المحصن فهو ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع العلماء على مر العصور، وقد بينا أدلته في الفتاوى أرقام: 5132 ، 26483 140038 .
ولم يعرف إنكار الرجم إلا عن الخوارج، وأهل البدع .
قال ابن عبد البر : ومعنى قول الله عز وجل: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. معناه الأبكار دون من قد أحصن، وأما المحصن فحده الرجم إلا عند الخوارج، ولا يعدهم العلماء خلافا لجهلهم، وخروجهم عن جماعة المسلمين. وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصنين، فممن رجم ماعز الأسلمي، والغامدية، والجهنية، والتي بعث إليها أنيسا. ورجم عمر بن الخطاب سخيلة بالمدينة، ورجم بالشام. وقصة الحبلى التي أراد رجمها فقال له معاذ بن جبل: ليس لك ذلك، للذي في بطنها، فإنه ليس لك عليه سبيل. وعرض مثل ذلك لعثمان بن عفان مع علي في المجنونة الحبلى. ورجم علي شراحة الهمدانية. ورجم أيضا في مسيره إلى صفين رجلا أتاه مقرا بالزنا. وهذا كله مشهور عند العلماء .اهـ.
وقال: وأما أهل البدع من الخوارج والمعتزلة فلا يرون الرجم على أحد من الزناة ثيبا كان أو غير ثيب، وإنما حد الزناة عندهم الجلد، الثيب وغير الثيب سواء عندهم. وقولهم في ذلك خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف سبيل المؤمنين فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء بعده، وعلماء المسلمين في أقطار الأرض متفقون على ذلك من أهل الرأي، والحديث. وهم أهل الحق .اهـ.
فهذا القول بإنكار الرجم ليس قولا عصريا، والقائل به له سلف، لكنهم بئس السلف هم.
وليعلم أن هذا الرجل وأضرابه من أهل الأهواء يلبسون شبهاتهم الواهية لبوس العقل والاستنارة، لتروج على الدهماء والجهلة، وإلا فإن استدلالاته أبعد ما تكون عن العقل، وهي إلى السفسطة أقرب.
وينبغي أن يعلم أن الدليل العقلي القطعي هو ما يدرك ببداهة العقول، وما يجمع عليه العقلاء، كمثل أن الكل أكبر من الجزء، وأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وهكذا. وأما ما تختلف فيه العقول، وما يعرض لبعضها من آراء، فلا يصح وصفه بأنه حكم عقلي قطعي.
وليعلم أنه ليس كل ما لا يستوعبه العقل يقتضي أن العقل يحيله وينفيه.
قال ابن تيمية: يجب الفرق بين ما يقصر العقل عن دركه، وما يعلم العقل استحالته، بين ما لا يعلم العقل ثبوته، وبين ما يعلم العقل انتفاءه، بين محارات العقول ومحالات العقول، فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه قد يخبرون بمحارات العقول وهو ما تعجز العقول عن معرفته، ولا يخبرون بمحالات العقول وهو ما يعلم العقل استحالته.اهـ.
وهذان الأمران من مثارات الغلط الشائعة في الكلام عن الأدلة العقلية.
وإلا فأي عقل يحيل شرعية حد الرجم ؟ أم أي عقل يحيل أن تنسخ تلاوة آية الرجم ويبقى حكمها ؟!.
وأما المغزى من ذلك فيقول فيه ابن عثيمين: وحكمة نسخ اللفظ دون الحكم: اختبار الأمة في العمل بما لا يجدون لفظه في القرآن، وتحقيق إيمانهم بما أنزل الله تعالى، عكس حال اليهود الذين حاولوا كتم نص الرجم في التوراة. اهـ.
وأما قوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة {النور:2}. فإما أن يكون عمومه مخصصا بآية الرجم وبالسنة، أو يكون العموم منسوخا بهما كذلك، وعند بعض العلماء أن الآية محكمة في حق المحصن، وأن ما جاء في آية الرجم وفي السنة هو زيادة على ما في هذه الآية، فيجمع للمحصن بين الجلد والرجم.
وفي التفاسير - لا سيما المعنية بالأحكام - كلام مستفيض عن العلاقة بين هذه الآية وبين رجم المحصن، يحسن بك الرجوع إليه وتأمله بتجرد، لا سيما ما رقمه الشنقيطي في كتاب أضواء البيان في الكلام على هذه الآية، ولم ننقل كلامه لطوله، وليسر الوقوف عليه.
ومن المضحك في كلام هذا المدعو عن الرجم، أنه يقر ببعض الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم، لكنه يقول أنها كانت قبل نزول سورة النور، فيقال له: وهل كان النبي يفعل فعلا متوحشا لا رحمة فيه، ويصد عن الإسلام قبل نزول سورة النور ؟! . سبحان واهب العقول.
وأيضا: فالقرآن الكريم فيه عقوبات بقطع الأيدي، والأرجل، والصلب . فأي فرق بينها وبين الرجم ؟! ، فكلها من بوابة واحدة، قد يراها سقيم العقل عقوبات وحشية لا رحمة فيها، فهذه الشبهة السخيفة ترد على هذه الحدود كلها.
ومن خذلان الله لهذا الرجل أنه يكذب بما أجمعت الأمة على صحته من الأحاديث، ثم ينقر عن الروايات المكذوبة والقصص المختلقة ليطعن بها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولتهدى إلى الحق أيها الأخ الحبيب، عليك أن تجأر إلى الله بالدعاء أن ينير بصيرتك، وأن يصرف عن قلبك الشبهات المضلة. وعليك أن تلزم غرز العلماء الربانيين من الصحابة ومن بعدهم، ولتسأل نفسك: هل كانت الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى عصرنا هذا على ضلال، حتى يجيء رجل في دبر الزمان، فيكشف له الحق دون أولئك الأخيار . ولتستشعر الوعيد المرتب على مخالفة سبيل المؤمنين، قال تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا {النساء:115}.
وقد أتت النصوص بأن العبد يسأل عن اتباع الرسل: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين {القصص:65}. فليت شعري كيف يجيب عن هذا السؤال من رد أحاديث خير المرسلين في حد الرجم ؟!
ولم يأت في النصوص أن العبد سيسأل لم لم تصدق ما رآه عقلك كما ذكر السائل.
وعلى عظم بائقة إنكار حد الرجم، فما سيترتب على هذا الإنكار هو أدهى وأنكى، فمن أنكر الرجم يلزمه ألا يأخذ بشيء من السنة أبدا؛ لأن من لم يثبت أحاديث حد الرجم فلن تثبت عنده أي سنة. فأحاديث الرجم رواها ثلاثة عشر صحابيا في الصحيحن فحسب، دون ما سواهما من كتب السنة. وكذلك يلزمه ألا يأخذ بإجماع الأمة في أي مسألة، فمن لم يثبت عنده الإجماع في هذه المسألة فأي إجماع سيثبت عنده ؟! ، وفي هذا هدم للدين كله.
والكلام في هذه المسألة طويل جدا يحتمل مصنفا مفردا .
نسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق، وأن يعصمنا من مضلات الفتن والأهواء، إنه سميع مجيب.
والله أعلم.