الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التوكيل في إخراج زكاة الفطر مشروع، وللوكيل ـ بإذن الله ـ أجر إعانة الناس على تلك العبادة، فعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخازن المسلم الأمين، الذي ينفذ ـ وربما قال: يعطي ـ ما أمر به كاملا موفرا طيبا به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به؛ أحد المتصدقين. متفق عليه.
قال ابن جبرين: لا بأس بالتوكيل في إخراج زكاة الفطر، وذلك بدفعها إلى الوكيل أو دفع ثمنها ولو في أول الشهر أو في نصفه، والأفضل أن تفرق في البلد الذي يقيم فيه الأفراد المزكى عنهم، وعلى الوكيل أن يفرقها في بلادهم يوم العيد أو قبله بيوم أو يومين. اهـ.
وأما ما يتعلق بالأصناف المخرجة في زكاة الفطر: فقد جاء عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب. متفق عليه.
قال القاضي عياض: واختلف في النوع المخرج فأجمعوا أنه يجوز البر والزبيب والتمر والشعير إلا خلافا في البر لمن لا يعتد بخلافه، وخلافا في الزبيب لبعض المتأخرين، وكلاهما مسبوق بالإجماع مردود به، وأما الأقط فأجازه مالك والجمهور ومنعه الحسن واختلف فيه قول الشافعي، وقال أشهب: لا تخرج إلا هذه الخمسة، وقاس مالك على الخمسة كل ما هو عيش أهل كل بلد من القطاني وغيرها، وعن مالك قول آخر أنه لا يجزي غير المنصوص في الحديث وما في معناه، ولم يجز عامة الفقهاء إخراج القيمة، وأجازه أبو حنيفة، قلت: قال أصحابنا: جنس الفطرة كل حب وجب فيه العشر، ويجزي الأقط على المذهب والأصح أنه يتعين عليه غالب قوت بلده، والثاني يتعين قوت نفسه، والثالث يتخير بينهما، فإن عدل عن الواجب إلى أعلى منه أجزأه، وإن عدل إلى ما دونه لم يجزه. اهـ.
وقال ابن هبيرة: واتفقوا على أنه تجزئ إخراجها من خمسة أصناف: البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والأقط، إذا كان قوتا حيث تخرج، إلا في أحد قولي الشافعي في الأقط خاصة أنه لا يجزئ، وإن كان قوتا لمن يعطاه، والمشهور من مذهبه جوازه. اهـ.
وهل يجزئ إخراج غير هذه الأصناف الخمسة؟ المرجح عندنا، كما في الفتوى رقم: 12469، أنه يجوز إخراج كل ما كان قوتا يقتاته الناس.
قال ابن قدامة: ومن قدر على التمر، أو الزبيب، أو البر، أو الشعير، أو الأقط فأخرج غيره لم يجزه، ظاهر المذهب أنه لا يجوز له العدول عن هذه الأصناف، مع القدرة عليها سواء كان المعدول إليه قوت بلده أو لم يكن، وقال أبو بكر: يتوجه قول آخر أنه يعطي ما قام مقام الخمسة، على ظاهر الحديث، صاعا من طعام، والطعام قد يكون البر والشعير وما دخل في الكيل، قال: وكلا القولين محتمل، وأقيسهما أنه لا يجوز غير الخمسة، إلا أن يعدمها، فيعطي ما قام مقامها، وقال مالك: يخرج من غالب قوت البلد، وقال الشافعي: أي قوت كان الأغلب على الرجل، أدى الرجل زكاة الفطر منه، واختلف أصحابه، فمنهم من قال بقول مالك، ومنهم من قال: الاعتبار بغالب قوت المخرج. اهـ.
وقال ابن تيمية: إذا لم يكن أهل البلد يقتاتون التمر والشعير، فهل يخرجون من قوتهم كالبر والرز، أو يخرجون من التمر والشعير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض ذلك، فإن في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، من المسلمين ـ وهذه المسألة فيها قولان للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، وأكثر العلماء على أنه يخرج من قوت بلده، وهذا هو الصحيح، كما ذكر الله ذلك في الكفارة بقوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم. اهـ.
فعلى هذا، فإن الأرز والعدس يجوز إخراجهما إن كانا قوتا للناس، وأما ما يسمى باللبن الجميد: فهو الأقط الوارد في النص وعامة العلماء على جواز إخراجه ـ كما تقدم في كلام عياض وابن هبيرة ـ وقال ابن قدامة: فإنه يجزئ أهل البادية إخراج الأقط إذا كان قوتهم، وكذلك من لم يجد من الأصناف المنصوص عليها سواه، فأما من وجد سواه، فهل يجزئ؟ على روايتين:
إحداهما: يجزئه أيضا، لحديث أبي سعيد الذي ذكرناه، وفي بعض ألفاظه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط ـ أخرجه النسائي.
والثانية، لا يجزئه، لأنه جنس لا تجب الزكاة فيه، فلا يجزئ إخراجه لمن يقدر على غيره من الأجناس المنصوص عليها كاللحم، ويحمل الحديث على من هو قوت له، أو لم يقدر على غيره، فإن قدر على غيره مع كونه قوتا له، فظاهر كلام الخرقي جواز إخراجه، وإن قدر على غيره سواء كان من أهل البادية أو لم يكن، لأن الحديث لم يفرق، وقول أبي سعيد: كنا نخرج صاعا من أقط، وهم من أهل الأمصار، وإنما خص أهل البادية بالذكر، لأن الغالب أنه لا يقتاته غيرهم، وقال أبو الخطاب: لا يجزئ إخراج الأقط مع القدرة على ما سواه في إحدى الروايتين، وظاهر الحديث يدل على خلافه. اهـ.
وأما التمر: فقد نقل جمع من العلماء الإجماع على إجزائه ـ كما سبق ـ ولم يشترطوا أن يكون قوتا، باعتبار أن النص قد ورد به ، وهذا هو الأقرب، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأصناف المنصوص عليها لا يجزئ إن لم تكن قوتا عند الناس، قال ابن عثيمين: لكن يبقى النظر فيما إذا لم تكن هذه الأنواع أو بعضها قوتا، فهل تجزئ؟ الجواب: الصحيح أنها لا تجزئ، ولهذا ورد عن الإمام أحمد: الأقط لا يجزئ إلا إذا كان قوتا، وإنما نص عليها في الحديث، لأنها كانت طعاما، فيكون ذكرها على سبيل التمثيل لا التعيين، لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا نخرجها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام، وكان طعامنا يومئذ التمر والزبيب والشعير والأقط ـ فقوله: من طعام ـ فيه إشارة إلى العلة، وهي أنها طعام يؤكل ويطعم، ويرجح هذا ويقويه قول النبي صلى الله عليه وسلم: أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ـ وهذا الحديث وإن كان ضعيفا، لكن يقويه حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما: فرضها ـ أي: زكاة الفطر، طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ـ وعلى هذا، فإن لم تكن هذه الأشياء من القوت كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها لا تجزئ. اهـ.
وأما إخراج الطحين من أحد الأصناف التي يجوز إخراجها: فهو محل نزاع بين الأئمة، والأولى تجنبه خروجا من الخلاف، قال ابن هبيرة: واختلفوا في الدقيق والسويق هل يجوز إخراجه من زكاة الفطر على نفس الواجب لا على طريق القيمة؟ فقال أبو حنيفة وأحمد: يجوز، وقال مالك والشافعي: لا يجوز. اهـ.
وانظر الفتوى رقم: 76420.
وتقدير الصاع بالطريقة المنقولة عن الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ أمر حسن، وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم:26376.
وأما الطحين: فإن مقدار الواجب فيه يعتبر بوزن حبه، جاء في الإقناع وشرحه: ويجزئ صاع دقيق وسويق، ولو مع وجود الحب، نص عليه، واحتج بزيادة انفرد بها ابن عيينة من حديث أبي سعيد، أو صاعا من دقيق لابن عيينة: أن أحدا لا يذكره فيه، قال: بل هو فيه رواه الدارقطني، قال المجد: بل أولى بالإجزاء، لأنه كفى مؤنته، كتمر نزع نواه، وسويق بر أو شعير: يحمص، وعبارة المبدع: يقلى ثم يطحن، وصاع الدقيق يعتبر بوزن حبه، نص عليه لتفرق الأجزاء بالطحن، وكذا السويق. اهـ.
والله أعلم.