السؤال
هل التحقق والتثبت مطلوب عند سماع الخبر من الفاسق فقط؟ أم يطلب ممن يشهد له بالصلاح أيضا؟ فالموضوع مطروح للنقاش بالأدلة الشرعية سهلة الفهم والمستنبطة من آية سورة الحجرات الشهيرة، وهل من احتمال أن الخبر الذي جاء به الفاسق يكون صحيحا، وإلا لما طلب منا التثبت، وإذا كان القرآن قد أقر بأن الفاسق رغم فسقه يجب التثبت من خبره، فقد يكون الاحتمال ضعيفا، وإلا لما طلب التثبت، فإنه يجب أن نعامل البر ممن يشهد له بالصلاح أيضا بنفس المنطق وأن نتثبت من كلامه حتى ولو عكسنا الميزان وقلنا إن نسبة صدقه أعلى، ولكن تبقى نسبة ولو قليلة يكون قد أخطأ فيها في نقل الخبر، أو أخطأ من أخبره، هذا فهمي القاصر فأرجو منكم أنتم أهل الخير بالله عليكم أن تفتوني بالدليل الشرعي ولا تبخلوا علي وقوموني ولا تترددوا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكرته من دلالة الآية، فيه نظر، إذ إن مفهوم المخالفة، هو قبول خبر العدل، لا التثبت فيه، ما لم تظهر ريبة أو شك، قال ابن القيم: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا {الحجرات: 6} وفي قراءة: فتثبتوا ـ فهذه الآية دليل على الجزم بقبول خبر الواحد العدل، وأنه لا يحتاج إلى التثبت.
وأما وجود احتمال ضعيف لخطئه، فهذا يمنعنا من القطع بصحته ـ ما لم يعتضد بالقرائن ـ ولكن يوجب الظن الغالب الذي يجب العمل به، قال ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له أو عملا به أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيرا من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية كأبي إسحاق وابن فورك، وأما ابن الباقلاني: فهو الذي أنكر ذلك وتبعه مثل أبي المعالي وأبي حامد وابن عقيل وابن الجوزي وابن الخطيب والآمدي ونحو هؤلاء، والأول هو الذي ذكره الشيخ أبو حامد وأبو الطيب وأبو إسحاق وأمثاله من أئمة الشافعية، وهو الذي ذكره القاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية، وهو الذي ذكره أبو يعلى وأبو الخطاب وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثالهم من الحنبلية، وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي وأمثاله من الحنفية، وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجبا للقطع به، فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أن الاعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة.
وقد يخطئ الثقة، فإذا ظهر خطؤه ظهر أن الاحتمال الذي كان قليلا للخطأ احتمال صحيح، فيرد عندها خبره، وهذا هو العلم الشريف ـ علم علل الحديث ـ قال ابن تيمية رحمه الله: وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ، فإنهم أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم أنه غلط فيها بأمور يستدلون بها ويسمون هذا: علم علل الحديث ـ وهو من أشرف علومهم، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه، وغلطه فيه عرف إما بسبب ظاهر، كما عرفوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، وأنه صلى في البيت ركعتين ـ وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها حراما، ولكونه لم يصل مما وقع فيه الغلط، وكذلك أنه ـ اعتمر أربع عمرـ وعلموا أن قول ابن عمر: إنه اعتمر في رجب ـ مما وقع فيه الغلط، وعلموا أنه تمتع وهو آمن في حجة الوداع، وأن قول عثمان لعلي: كنا يومئذ خائفين ـ مما وقع فيه الغلط، وأن ما وقع في بعض طرق البخاري: أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقا آخر ـ مما وقع فيه الغلط، وهذا كثير، والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله لا يميز بين الصحيح والضعيف فيشك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به، وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظا في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلا له في مسائل العلم مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط.
والله أعلم.