الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأشهر التفاسير في الآية، هو ما تبادر إلى ذهنكم؛ فقد روى البيهقي في سننه عن عمرو بن مرة قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان قال: قال ابن عباس - رضي الله عنه -: المؤمن يلحق به ذريته ليقر الله بهم عينه، وإن كانوا دونه من العمل. صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس في قوله: ألحقنا بهم ذريتهم قال: إن الله يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة, وإن كانوا دونه في العمل. وسكت عنه الذهبي.
وبناء عليه, فإنه يلحق أصحاب اليمين بالمقربين من آبائهم وأهليهم, فقد قال ابن كثير في التفسير عند قول الله تعالى: جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم {الرعد: من الآية23}: أي: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين؛ لتقر أعينهم بهم حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتنانا من الله, وإحسانا من غير تنقيص للأعلى عن درجته، كما قال تعالى: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم. الآية. اهـ
وأما جزم البعض بأن الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الرسول صلى الله عليه ويسلم أخبر أنه يرجو أن يكون هو, فقد قال المناوي في فيض القدير: ذكره على طريق الترجي تأدبا وتشريعا لأنه إذا كان أفضل الأنام فلمن يكون ذلك المقام.
ويدل له أنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم ولا فخر, كما ثبت في الصحيح، فله أعلى درجات الجنة، وهي هذه المنزلة، فلعله قالها تواضعا، أو قبل أن يعلمه الله أنه أفضل الخلق, وراجع الفتوى رقم: 185827.
وأما عن قوله تعالى: يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب {الإسراء:57}، فينبغي أن يفرق بين معنى الوسيلة الواردة في الآية المذكورة، وبين معناها في حديث الدعاء بعد الأذان الذي رواه مسلم.
فالوسيلة في الآية إنما هي بمعنى القربة الموصلة إلى رضا الله تعالى.
وأما الوسيلة في الدعاء المذكور فإنما هي علم على منزلة عالية في الجنة مختصة بشخص واحد هو النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشنقيطي في أضواء البيان في تفسيره لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة {المائدة:35} الآية.
اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بإخلاص في ذلك لله تعالى؛ لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضا الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة.
وأصل الوسيلة: الطريق التي تقرب إلى الشيء، وتوصل إليه وهي العمل الصالح بإجماع العلماء؛ لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالآيات المبينة للمراد من الوسيلة كثيرة جدا, كقوله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا {الحشر: 7}، وكقوله: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني {آل عمران: 31}، وقوله: قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول. إلى غير ذلك من الآيات...
وقال:... وهذا الذي فسرنا به الوسيلة هنا هو معناها أيضا في قوله تعالى: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب {الإسراء:57}، وليس المراد بالوسيلة أيضا المنزلة التي في الجنة التي أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل له الله أن يعطيه إياها، نرجو الله أن يعطيه إياها؛ لأنها لا تنبغي إلا لعبد، وهو يرجو أن يكون هو. اهـ
وجاء في فتح الباري لابن رجب: وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "سلوا الله لي الوسيلة" قالوا: يا رسول الله, وما الوسيلة؟ قال: "أعلى درجة من الجنة, لا ينالها إلا رجل واحد أرجو أن أكون أنا. ولفظ الامام أحمد: إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة - وذكر باقيه. وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الوسيلة درجة عند الله عز وجل ليس فوقها درجة, فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة. انتهى.
يقول ابن القيم: ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق عبودية لربه, وأعلمهم به, وأشدهم له خشية, وأعظمهم له محبة, كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله, وهي أعلى درجة في الجنة, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يسألوها له, لينالوا بهذا الدعاء الزلفى من الله وزيادة الإيمان. انتهى.
وجاء في شرح سنن أبي داود للشيخ عبد المحسن العباد: وقوله: (ثم سلوا الله لي الوسيلة) بين عليه الصلاة والسلام الوسيلة, وأنها منزلة خاصة في الجنة لا تتكرر, ولا تتعدد، وإنما هي لعبد من عباد الله، ولا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، ويرجو أن يكون هو ذلك العبد، فالوسيلة منزلة خاصة في الجنة، وهي التي تسأل للرسول صلى الله عليه وسلم, وقوله: (وأرجو أن أكون أنا هو) يعني: أرجو أن أكون أنا ذلك العبد الذي تكون له الوسيلة وهي المنزلة المتميزة الخاصة التي تكون في الجنة. اهـ
وأما قولك: وأبناء الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يلحقون بأبيهم صلى الله عليه وسلم في نفس الدرجة .. إذن كيف لا تنبغي إلا لشخص واحد؟ فقد أجاب المناوي في فيض القدير عن هذا بقوله: ما في الصحيحين: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس, فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة, أي: في الارتفاع, وفوقه عرش الرحمن, واستشكل بخبر أحمد عن أبي هريرة مرفوعا: إذا صليتم علي فاسألوا الله لي الوسيلة, أعلى درجة في الجنة, لا ينالها إلا رجل واحد, وأرجو أن أكون أنا هو, وفي حديث آخر: الوسيلة درجة عند الله, ليس فوقها درجة, فاسألوا الله لي الوسيلة, فقضيته أن الوسيلة أعلى درجات الجنة, وهي خاصة به, فهي أعلى الفردوس, وجمع بأن الفردوس أعلى الجنة, وفيه درجات أعلاها الوسيلة, ولا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها أعلى من بعض. انتهى.
وبناء عليه, فهم يلحقون به في كونهم معه في الفردوس الأعلى, ولا يلزم من ذلك كونهم في نفس درجته، ومثل ما ذكر المفسرون في معية الصحابة والمؤمنين الطائعين له في الجنة من أنهم يرونه, ويجالسونه, ولا يلزم من ذلك نيلهم نفس درجته, فقد قال البغوي في تفسيره لقوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا {النساء:69}: قال قتادة: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يكون الحال في الجنة وأنت في الدرجات العليا ونحن أسفل منك؟ فكيف نراك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: ومن يطع الله - في أداء الفرائض - والرسول - في السنن - فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين -أي: لا تفوتهم رؤية الأنبياء, ومجالستهم, لا لأنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء والصديقين. اهـ
وأما قولك: "توقع كثير من أهل الجنة من المقربين, كيف نجمع بينها وبين الآية المباركة: أولئك المقربون * في جنات النعيم * ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين. {الواقعة}؟ فالجمع بينهما أن القلة والكثرة نسبية, فالمقربون قليل بالنسبة لأصحاب اليمين، وكذلك المقربون وذرياتهم قليل بالنسبة لأصحاب اليمين وأزواجهم.
ونظير ذلك قوله تعالى: اقتربت الساعة {القمر:1}، لعل الساعة قريب {الشورى:17}، مع أنه مر أكثر من ألف وأربعمائة عام على الآية ؛ فالقرب نسبي بالنسبة لما مر من عمر الدنيا، فما بقي أقل.
والله أعلم.