طريق معرفة كون أمر ما معصية أم لا هو الشرع

0 726

السؤال

إذا أذنبت ذنبا أشعر بضيق، ولا أستطيع القيام بأي شيء، وأشعر أني مقيد. وإذا كنت نائما، أو ذهبت للفراش مثلا ونمت، أستمر في النوم ولا أقوم، وأشعر بالهروب مما أذوقه في النوم. فعندي ثلاثة أسئلة لهذا؟
الأول: هل يمكن أن يكون من تلبيس الشيطان أن يوهمني أني قد فعلت ذنبا لكي أعيش، وأفعل ما قد ذكرته، في حين أني قد أفعل بعض الأشياء، فأشك هل هذه معصية أم لا؟ فأحتار فيمكن أن يكون من تلبيس الشيطان علي أن يأتيني ويقول إن هذه معصية، فأصبح كما ذكرت؟ الثاني: إذا أذنبت ذنبا بالفعل- وأستغفر الله- أجد في صدري ما يدل على أن الله قد غفر لي ذنبي، فإذا كان الشيطان أوهمني أني فعلت ذنبا لأفعل ما قد ذكرت، ولا أرى في صدري ما أشعر به، ويعطي دلالة على أن الله قد غفر لي ذنبي.
فهل ما أقوله صحيح أي من حيث إذا كنت لم أذنب فور انتهائي من التوبة، ولم أجد هذا الشعور بالمغفرة، سيكون ما فعلته ليس ذنبا وهذا من تلبيس شيطاني؟
الثالث: هل يوجد شيء في الأصل في تلبيس إبليس على بني البشر فيما ذكرت. وأنا لم أسمع أو أقرأ عن شيء يخص ما قلته لكم؟
وجزاكم الله عنا كل خير.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن المرجع في العلم بالمحرمات هو إلى الأدلة الشرعية من الكتاب، والسنة، والإجماع. ومعرفة ما حرمه الله عز وجل مما أحله تتلقى من الوحي المنزل، ولا تتلقى من خطرات النفوس، وخلجات الأفئدة، والشيطان قد يدخل على العبد من باب تحريم الحلال، فيلبس عليه بتحريم ما أحل الله له، كما جاء في الحديث القدسي: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. أخرجه مسلم.

فالعلم الشرعي هو السبيل الوحيد الذي يعلم به العبد هل ما فعله معصية أم لا.
وبالجملة فالعبد مأمور بالتوبة على كل حال، وليست التوبة متوقفة على علم العبد بوقوعه في ذنب معين.

قال ابن القيم: ومنزلة التوبة أول المنازل، وأوسطها، وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك، وقد قال الله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور: 31] وهذه الآية في سورة مدنية، خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه، بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه، وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي، إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، جعلنا الله منهم. قال تعالى: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} [الحجرات: 11] قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثم قسم ثالث البتة، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه، لجهله بربه وبحقه، وبعيب نفسه وآفات أعماله .اهـ. من مدارج السالكين.
والعبد لا ينفك عن ذنب وتقصير في طاعة الله، ومن الخطأ أن يظن أن التوبة من اجتراح المعاصي الظاهرة فحسب.

قال ابن تيمية: فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله، وإلى فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه. وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال، لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش، والمظالم بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها، فأكثر الخلق يتركون كثيرا مما أمرهم الله به من أقوال القلوب وأعمالها، وأقوال البدن وأعماله وقد لا يعلمون أن ذلك مما أمروا به، أو يعلمون الحق ولا يتبعونه فيكونون إما ضالين بعدم العلم النافع، وإما مغضوبا عليهم بمعاندة الحق بعد معرفته.اهـ.
وقال: ثم لا بد له بعد ذلك من الذنوب فيريد أن يتطهر منها بالتوبة، فهو محتاج إلى العلم والعمل به، وإلى التوبة مع ذلك، فلا بد له من التقصير أو الغفلة في سلوك تلك السنن التي هداه الله إليها، فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن، وهذه السنن تدخل فيها الواجبات والمستحبات فلا بد للسالك فيها من تقصير وغفلة، فيستغفر الله ويتوب إليه؛ فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد لا يستطيع أن يقوم لله بالحق الذي أوجبه عليه، فما يسعه إلا الاستغفار والتوبة عقيب كل طاعة. اهـ.
وانشراح صدر العبد قد يكون أمارة على قبول توبته، لكن العبد لا يمكنه الجزم أبدا هل قبلت توبته، وغفرت زلته أم لا، وإنما على المؤمن أن يلازم التوبة والاستغفار، مع اتهام توبته على الدوام.

  قال ابن القيم: وأما اتهام التوبة فلأنها حق عليه، لا يتيقن أنه أدى هذا الحق على الوجه المطلوب منه، الذي ينبغي له أن يؤديه عليه، فيخاف أنه ما وفاها حقها، وأنها لم تقبل منه، وأنه لم يبذل جهده في صحتها، وأنها توبة علة وهو لا يشعر بها، كتوبة أرباب الحوائج والإفلاس، والمحافظين على حاجاتهم ومنازلهم بين الناس، أو أنه تاب محافظة على حاله، فتاب للحال لا خوفا من ذي الجلال، أو أنه تاب طلبا للراحة من الكد في تحصيل الذنب، أو اتقاء ما يخافه على عرضه وماله ومنصبه، أو لضعف داعي المعصية في قلبه، وخمود نار شهوته، أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من العلم والرزق، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفا من الله، وتعظيما له ولحرماته، وإجلالا له، وخشية من سقوط المنزلة عنده، وعن البعد والطرد عنه، والحجاب عن رؤية وجهه في الدار الآخرة، فهذه التوبة لون، وتوبة أصحاب العلل لون .اهـ. من المدارج.
ولا ريب في أن الشيطان يوسوس للعباد ويلبس عليهم، وهذا أمر في غاية الظهور والجلاء.

 قال ابن الجوزي: اعلم أن الآدمي لما خلق ركب فيه الهوى، والشهوة ليجتلب بذلك ما ينفعه، ووضع فيه الغضب ليدفع به ما يؤذيه، وأعطي العقل كالمؤدب يأمره بالعدل فيما يجتلب، ويجتنب. وخلق الشيطان محرضا له على الإسراف في اجتلابه واجتنابه. فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم عليه الصلاة والسلام، وقد بذل عمره ونفسه في فساد أحوال بني آدم، وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال سبحانه وتعالى: {لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}. وقال تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} وقال تعالى: {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا}. وقال: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}. وقال تعالى: {إنه عدو مضل مبين} وقال: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}. وقال تعالى: {ولا يغرنكم بالله الغرور}. وقال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين}. وفي القرآن من هذا كثير .

وقال: وينبغي أن تعلم أن إبليس شغله التلبيس.

وقال: التلبيس إظهار الباطل في صورة الحق، والغرور نوع جهل يوجب اعتقاد الفاسد صحيحا، والرديء جيدا وسببه وجود شبهة أوجبت ذلك؛ وإنما يدخل إبليس على الناس بقدر ما يمكنه، ويزيد تمكنه منهم. ويقل على مقدار يقظتهم وغفلتهم، وجهلهم، وعلمهم. اهـ. من كتابه: تلبيس إبليس.
فنوصيك بملازمة التوبة والاستغفار في كل الأحوال، وألا تلتفت إلى وساوس الشيطان، وأن تدرأها بالاستعاذة بالله عز وجل، وأن تجتهد في طلب العلم الشرعي لتعرف ما أحله الله عز وجل وأذن فيه، مما حرمه ومنع منه.
والله أعلم.
 

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة