السؤال
أصوم يوما وأفطر يوما، وأقدر على ذلك - والحمد لله - لكنه مع الوقت أضعفني قليلا، وضر شعري، فطلبت مني أمي التوقف، لكني لم أعد أستطيع أن أشعر بالذنب إن توقفت, أو قطعته بإفطار؛ فقد اعتدت الصيام, وأقدر عليه حتى في السفر، ومع الدراسة والعمل، فقلت بأني نذرت صيام عشر سنوات، فسكتت عني, فهل ما فعلته يجوز؟ أرشدوني - جزيتم رؤية الرحمن -.
الإجابــة
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمعلوم أن صوم يوم وإفطار يوم هو أحب الصيام إلى الله، إلا أنه يشترط لكونه أفضل ألا يضعف البدن عما هو أفضل منه.
يقول ابن مفلح في المبدع شرح المقنع في معرض حديثه عن صيام داود: وشرطه أن لا يضعف البدن؛ حتى يعجز عما هو أفضل من القيام بحقوق الله تعالى، وحقوق عباده اللازمة، فإن أضعف عن شيء من ذلك كان تركه أفضل؛ ولهذا أشار الصادق في حق داود عليهما السلام: ولا يفر إذا لاقى. فمن حق النفس اللطف بها؛ حتى توصل صاحبها إلى المنزل. انتهى.
وقد كان عليك طاعة أمك في ترك هذا الصوم، لا سيما وقد سبب لك بعض الضعف, وراجعي الفتوى رقم: 62672 وما أحيل عليه فيها.
وأما قولك لأمك بأنك نذرت الصيام، فإن كنت لم تنذري الصيام حقا، وإنما أخبرتها بذلك لتكف عنك فهذا كذب؛ وفي صحيح مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط - رضي الله عنها - قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث، تعني: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.
قال النووي في شرحه للحديث: قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور, واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو، فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة, وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة، واحتجوا بقول ابراهيم صلى الله عليه وسلم: بل فعله كبيرهم، وإني سقيم, وقوله: إنها أختي, وقول منادي يوسف صلى الله عليه وسلم: أيتها العير إنكم لسارقون, قالوا: ولا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف، وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو, وقال آخرون - منهم الطبري -: لا يجوز الكذب في شيء أصلا, قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية، واستعمال المعاريض, لا صريح الكذب، مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها، ويكسوها كذا, وينوي إن قدر الله ذلك، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه، وإذا سعى في الإصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلاما جميلا, ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك وورى، وكذا في الحرب بأن يقول لعدوه: مات إمامكم الأعظم، وينوي إمامهم في الأزمان الماضية، أو غدا يأتينا مدد, أي طعام, ونحوه, هذا من المعاريض المباحة، فكل هذا جائز، وتأولوا قصة ابراهيم، ويوسف, وما جاء من هذا على المعاريض. والله أعلم. اهـ.
وعلى ذلك: فما فعلت مختلف في جوازه، وعموما فطالما أن أمك قد كفت عنك، فلا بأس باستمرارك في الصيام المذكور، لكن لو عادت فطلبت منك تركه، فعليك طاعتها في ذلك كما سبق، وننصحك بعدم تكرار الكذب لأجل ذلك الصيام، لا سيما وقد سبب لك ضعفا.
أما إن كنت قد نذرت الصوم حقا فيجب عليك الوفاء به؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: من نذر أن يطيع الله فليطعه. رواه البخاري وغيره؛ وحينئذ ليس لأمك منعك منه.
جاء في كشاف القناع عن متن الإقناع: وليس للوالدين منع ولدهما من حج الفرض, والنذر, ولا تحليله منه, ولا يجوز للولد طاعتهما فيه, أي في ترك الواجب أو التحليل, وكذا كل ما وجب كصلاة الجماعة, والجمع, والسفر للعلم الواجب; لأنها فرض عين, فلم يعتبر إذن الأبوين فيها, كالصلاة.
والله أعلم.