السؤال
إذا لم يوجد من يقيم الحجة على من قام بفعل مكفر فماذا يجب فعله؟ حيث إنكم ذكرتم أن العالم هو من يقوم بذلك فقط, فكيف إذا كان من قام بذلك يعدون بالآلاف؟
إذا لم يوجد من يقيم الحجة على من قام بفعل مكفر فماذا يجب فعله؟ حيث إنكم ذكرتم أن العالم هو من يقوم بذلك فقط, فكيف إذا كان من قام بذلك يعدون بالآلاف؟
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا لم تحصل إقامة الحجة على هذا الشخص بسبب عدم وجود عالم يقيمها عليه، فإنه لا يحكم بكفره، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين, وإن أخطأ وغلط؛ حتى تقام عليه الحجة, وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة, وإزالة الشبهة. انتهى.
وقال في تلخيص كتاب الاستغاثة: فإن تكفير الشخص المعين, وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر؛ ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين - كقدامة بن مظعون, وأصحابه - شرب الخمر وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة اتفق علماء الصحابة - كعمر, وعلي, وغيرهما - على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق، فإذا أصروا على الجحود كفروا، وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله: إذا أنا مت فاسحقوني, ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، فأمر الله البر فرد ما أخذ منه، وأمر البحر فرد ما أخذ منه، وقال ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له ـ فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته, وأنه لا يعيده، أو جوز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلا لم يتبين له الحق بيانا يكفر بمخالفته، فغفر الله له. اهـ.
وقال ابن تيمية - رحمه الله - أيضا: فإن الكتاب والسنة قد دل على أن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأسا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية، وذلك مثل قوله تعالى: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ـ وقوله: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ـ الآية، وقوله: أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ـ وقوله: وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم ـ الآية، وقوله: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ـ وقوله: وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا. انتهى.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في طريق الهجرتين بعد كلامه عن الطبقة السابعة عشر من مراتب المكلفين في الدار الآخرة يوم القيامة، وهي طبقة المقلدين، وجهال الكفرة، وأتباعهم، وحميرهم الذين هم معهم تبعا لهم: الله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا: فهي جارية مع ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة، وهو مبني على أربعة أصول:
أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه...
الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادة العلم بها وبموجبها.
الثاني: العناد لها بعد قيامها, وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها: فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.
الأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر؛ إما لعدم عقله وتمييزه, كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له...
الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها سبحانه، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة، وعواقبها الحميدة. اهـ.
وعلى أية حال: فإن الحكم بالردة على الأعيان، وما يترتب عليه لا يكون لآحاد الناس، وإنما يكون للقضاء الشرعي الذي يتولاه أهل العلم، فلا يحكم بكفر المعين إلا إذا توفرت فيه شروط التكفير، وانتفت عنه موانعه، ومن ذلك أن يكون بالغا، عاقلا، مختارا، غير معذور بجهل، أو تأويل، وحكم بذلك القاضي الشرعي، أو من يحل محله من علماء المسلمين الثقات، ثم إن أول ما ينبغي الاهتمام به في هذه المسألة هو أن نهتم بتعلم العلم الشرعي، ونوظف طاقات أذكيائنا في تحصيله، ونفرغ منهم مجموعات كثيرة في ذلك، ونعينهم على الصبر والمواصلة في تعلمه حتى نتعرف على العقيدة الصحيحة، ونتمكن من معرفة الحق بدليله، ومن الرد على الشبه المخالفة له، ونقاوم الردة بكل صورها، ولا ندع لها المجال حتى لا تتمدد في المجتمع المسلم، ويكون ذلك بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 721، 106396، 53835، 15255، 44772.
والله أعلم.