الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يزال أهل العلم والفضل ينقلون من حكمة الأوائل ما يجمل نقله، وينتقون منها ما يحسن وقعه، ويعظم نفعه، كما فعل ابن عبد البر في (بهجة المجالس وأنس المجالس) والماوردي في (أدب الدنيا والدين) وأبو منصور الثعالبي في (درر الحكم) ومجد الملك ابن شمس الخلافة في (الآداب النافعة بالألفاظ المختارة الجامعة) وغيرهم كثير.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. رواه أبو داود وأحمد، وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة في وصف الشيطان: صدقك وهو كذوب. رواه البخاري. والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها.
وهذا كله مشروط بإصابة الحق، وموافقة الشرع، وإلا فما خالفه لا يجوز الاستشهاد به ونشره، حتى ولو قاله مسلم!
وهنا ننبه على أن ذلك وإن كان جائزا، إلا أن الأولى والأفضل والأنفع هو الاستشهاد بكلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ لما في ذلك من الحكمة في ذاته، والأثر المتعدي في المحبة والاقتداء. ولا يخفى ما يمكن أن يقع في قلوب السذج من محبة أو تعظيم لأهل الكفر والفجر إذا جرى الاستشهاد بكلامهم دون تنبه أو تفطن لحالهم ! وأمر آخر ينبغي مراعاته وهو أن من اشتهر من هؤلاء بمبدأ باطل حتى صار علما عليه، فلا ينبغي ذكره والاستشهاد بأقواله، حتى لا يكون ذلك مدعاة لتثبيت مبدئه وذيوع أفكاره.
وأما ما استدل به السائل من: (مدح النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الكفرة في مواقف معينة، كمقولة لبيد، وخالد أيام كفره، وكسهيل بن عمرو في صلح الحديبية) ! فهذا يحتاج إلى تحرير وإثبات.
أما لبيد فهو ابن ربيعة العامري، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. رواه البخاري ومسلم. وفي الاستشهاد بذلك على ما نحن فيه نظر ! لأن لبيدا أسلم وحسن إسلامه، ويقال: إنه قال ذلك الشعر بعد إسلامه.
قال ابن عبد البر في (الاستيعاب): في هذه القصيدة ما يدل على أنه قالها في الإسلام. والله أعلم، وذلك قوله:
وكل امرئ يوما سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المحاصل .. اهـ.
وأما خالد بن الوليد فإن كان السائل يعني ما يروى في شأن الكتاب الذي أرسله إليه أخوه الوليد، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد:
فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به. فقال: ما مثله جهل الإسلام! ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين، لكان خيرا له، ولقدمناه على غيره ... ".
فهذا رواه الواقدي في المغازي عن يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه عن خالد.
والواقدي وإن كان عمدة في التاريخ إلا إن حديثه واه.
قال ابن حجر في التقريب: متروك مع سعة علمه. اهـ.
وشيخه يحيى بن المغيرة ترجمه البخاري في التاريخ الكبير بما في هذا الإسناد فحسب، وقال: يعد في أهل المدينة. عن أبيه. روى عنه: ابنه المغيرة. اهـ. ولم نجد من وثقه.
وأبوه المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي لم يدرك خالدا رضي الله عنه، ولذا نص المزي في التهذيب على أن روايته عن خالد مرسلة.
ومن طريق الواقدي: رواه البيهقي في الدلائل، و ابن عساكر في تاريخ دمشق، و ابن العديم في تاريخ حلب. وأورده الذهبي في التاريخ وفي السير، وابن كثير في البداية والنهاية. وأورده ابن سعد في الطبقات دون إسناد. وكذا الصفدي في الوافي بالوفيات.
وأما سهيل بن عمرو، فلا ندري ما مدحه النبي صلى الله عليه وسلم منه أيام كفره.
والله أعلم.