تفسير: يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة...

0 188

السؤال

ما المقصود بالتجارة عن تراض في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقال السعدي في تفسيره: ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، وهذا يشمل أكلها بالغصوب، والسرقات، وأخذها بالقمار، والمكاسب الرديئة، بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر، والإسراف؛ لأن هذا من الباطل، وليس من الحق، ثم إنه لما حرم أكلها بالباطل أباح لهم أكلها بالتجارات، والمكاسب الخالية من الموانع، المشتملة على الشروط من التراضي، وغيره. اهـ.

والتراضي هو: الرضا من الجانبين بما يدل عليه من لفظ، أو عرف. كما قال ابن عاشور في التحرير والتنوير.

وقال الدكتور وهبة الزحيلي في التفسير المنير: التجارة تشمل عقود المعاوضات المقصود بها الربح، وخصها بالذكر من بين أسباب الملك؛ لكونها أغلب وقوعا في الحياة العملية، ولأنها من أطيب وأشرف المكاسب ... وليس كل تراض معترفا به شرعا، وإنما يجب أن يكون التراضي ضمن حدود الشرع، فالربا المأخوذ عن بيع فيه تفاضل، أو بسبب قرض جر نفعا، والقمار، والرهان، وإن تراضى عليه الطرفان، حرام، لا يحل شرعا. اهـ.

وقال ابن عطية في (المحرر الوجيز): هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن إن كانت تجارة فكلوها ... فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمة ... و{عن تراض} معناه عن رضا، إلا أنها جاءت من المفاعلة، إذ التجارة من اثنين، واختلف أهل العلم في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر، فيقول: قد اخترت، وذلك بعد العقدة أيضا، فينجزم حينئذ، هذا هو قول الشافعي، وجماعة من الصحابة، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار وهو حديث ابن عمر، وأبي برزة، ورأيهما، وهما الراويان: أنه افتراق الأبدان، والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان؛ لأنه من صفات الجواهر، وقال مالك، وأبو حنيفة - رحمهما الله -: تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة، فتنجزم العقدة بذلك، ويرتفع الخيار، وقالا في الحديث المتقدم: إنه التفرق بالقول. اهـ.

وهذا التفصيل في الأحكام والفقه يذكره أكثر المفسرين، قال أبو حيان في البحر المحيط: في قوله: {عن تراض} دلالة على أن ما كان على طريق التجارة، فشرطه التراضي، وهو من اثنين: الباذل للثمن، والبائع للعين، ولم يذكر في الآية غير التراضي، فعلى هذا: ظاهر الآية يدل على أنه لو باع ما يساوي مائة بدرهم جاز، إذا تراضيا على ذلك، وسواء أعلم مقدار ما يساوي، أم لم يعلم، وقالت فرقة: إذا لم يعلم قدر الغبن، وتجاوز الثلث، رد البيع، وظاهرها يدل على أنه إذا تعاقد بالكلام أنه تراض منهما، ولا خيار لهما، وإن لم يتفرقا، وبه قال: أبو حنيفة، ومالك، وروي نحوه عن عمر، وقال الثوري، والليث، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي: إذا عقدا فهما على الخيار ما لم يتفرقا، واستثنوا صورا لا يشترط فيها التفرق، واختلفوا في التفرق، فقيل: بأن يتوارى كل منهما عن صاحبه، وقال الليث: بقيام كل منهما من المجلس، وكل من أوجب الخيار يقول: إذا خيره في المجلس فاختار، فقد وجب البيع، وروي خيار المجلس عن عمر أيضا، وأطال المفسرون بذكر الاحتجاج لكل من هذه المذاهب، وموضوع ذلك كتب الفقه. اهـ.

وقال ابن كثير في تفسيره: من هذه الآية الكريمة احتج الشافعي على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول؛ لأنه يدل على التراضي نصا، بخلاف المعاطاة، فإنها قد لا تدل على الرضى، ولا بد، وخالف الجمهور في ذلك - مالك، وأبو حنيفة، وأحمد - فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا، ومنهم من قال: يصح في المحقرات، وفيما يعده الناس بيعا، وهو احتياط نظر من محققي المذهب. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات