الأفعال المحتملة الصادرة عن الأفاضل تُحمل على أحسن المحامل

0 1440

السؤال

كنت نازلا على عائشة، فاحتلمت في ثوبي، فغمستهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة، فأخبرتها، فبعثت إلي عائشة فقالت : ما حملك على ما صنعت بثوبيك ؟ قال قلت: رأيت ما يري النائم في منامه. قالت : هل رأيت فيهما شيئا ؟ قلت : لا . قالت : فلو رأيت شيئا غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري. رواه مسلم.
وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن همام أنه كان عند عائشة فاحتلم فأبصرته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه ....إلخ
أولا: أنا أحب عائشة، وأعتقد أنها طاهرة مبرأة من سبع سموات لما في الصحيحين من أن قصة الإفك وسورة النور نزلت بسببها مع صفوان لما اتهموها، ولكني رأيت ياسر الخبيث في اليوتيوب يقرأ هذه الروايات، وقرأ رواية أخرى أنه جاءها في الليل ثم احتلم. أتوقع أنها عند الدارقطني يقول: كيف (يبتاعون)؟؟ عندها الرجال؟ وإن كان بينها وبينهم حجاب لعلهم انتهكوا الحجاب، فالشيطان ما زال. ولما سمعت هذه الروايات وتأكدت أنها صحيحة كدت أن أموت، ولا أستطيع أن أنام الليل. أجيبوني مأجورين، جزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فعائشة - رضي الله عنها - هي أم المؤمنين، وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضائلها لا تكاد تحصى، وراجع الفتوى رقم: 43062.

وقد أحسنت إذ سألت عما استشكل عليك، وإلا فالأفعال المحتملة الواردة عن الأفاضل، لا بد أن تحمل على أحسن محاملها؛ ففي مسند أحمد، وسنن ابن ماجه عن علي، وعن ابن مسعود -رضي الله عنهما- قال: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم أهياه وأهداه وأتقاه. ولفظ ابن ماجه "أهناه" صححه أحمد شاكر، ومحققو المسند.

وهذه قاعدة مهمة في الأفعال المحتملة إذا صدرت من أهل الفضل حملت على أحسن محاملها، لا سيما وأن الرواة الذين نقلوا لنا هذه الأخبار المحتملة هم الذين نقلوا لنا فضائل الصحابة، ولم يجدوا أن هذه الأخبار فيها شيء من المصائب، أو المعايب، وكذلك شراح الحديث السالفون، وبالتالي فقد أتينا من قبل سوء فهمنا لهذه النصوص؛ قال د.عبد الكريم الخضير في شرح الترمذي بعد أن ذكر قصة همام: وفي رواية مسلم عن عبد الله بن شهاب الخولاني قال: كنت نازلا على عائشة فاحتلمت في ثوبي فغمسته في الماء، فرأتني جارية لعائشة فأخبرتها، ليس معنى أنه كان ضيفا عندها أنه نام معها في غرفتها إنما في ضيافتها، ولا يلزم أن يكون في منزلها إنما نزل في ضيافتها؛ لأن مثل هذا الخبر قد يتلقفه من يتلقفه من الذين يتبعون الشبهات والشهوات، فيستدل به على أن المرأة وإن كانت بمفردها في البيت يمكن أن ينزل بها رجل ضيف، هذا الكلام ليس بصحيح. انتهى.

وأما بخصوص بيان الحكم فيما يتعلق بالمني؛ فلا يصلح هنا الحياء؛ قال البخاري - رحمه الله -: باب الحياء في العلم، وقال مجاهد: لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر. وقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. اهـ

وعائشة، وسائر أزواج النبي - رضي الله عنهن - مأمورات بالتبليغ؛ قال تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا (الأحزاب:34). واذكرن : فعل أمر، وآيات الله هي القرآن الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحكمة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى : وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى {النجم:4،3}،  وإنما أمرهن الله عز وجل بالتبليغ لأنهن أكثر الناس دراية بالوحي الخاص بالشئون الحياتية الخاصة للمسلمين؛ فالنبي زوجهن والوحي نزل عليه وكان يعمل بالوحي في بيته، وتعلمن منه أدق تفاصيل الحياة الزوجية وهو ما لا يعلمه غيرهن من رجال الأمة، مما لا يجوز عليهن كتمه، ثم إنهن أمهات المؤمنين؛ روى مسلم عن أبي موسى ، قال : اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون : لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء . وقال المهاجرون : بل إذا خالط فقد وجب الغسل ، قال : قال أبو موسى : فأنا أشفيكم من ذلك فقمت فاستأذنت على عائشة فأذن لي ، فقلت لها : يا أماه - أو يا أم المؤمنين - إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك ، فقالت : لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك ، فإنما أنا أمك ، قلت : فما يوجب الغسل ؟ قالت على الخبير سقطت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل.

فاصرف عن نفسك هذه الشبهات، ولا تعبأ بها، ونظرة يسيرة في ترجمة الصديقة يقطع معها قطعا لا يساوره شك أنها من خيار الصالحات المنزهة عن أقل من ذلك بكثير- رحمها الله -.

وإليك نصيحة يقول عنها ابن القيم : ما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.

قال في مفتاح دار السعادة: قال لي شيخ الإسلام – رضي الله عنه – وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها؛ فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات، أو كما قال. اهـ

وذكر الذهبي في السير: ذكر ابن عبد البر في كتاب "العلم" له : قال ابن وهب: كان أول أمري في العبادة قبل طلب العلم، فولع بي الشيطان في ذكر عيسى ابن مريم -عليه السلام- كيف خلقه الله -تعالى- ؟ ونحو هذا، فشكوت ذلك إلى شيخ، فقال لي: ابن وهب، قلت: نعم، قال: اطلب العلم. فكان سبب طلبي العلم. وقد صار إماما، واندفعت شكوكه، وشبهاته.

فدع عنك الاستماع لهؤلاء الضلال، واشغل نفسك بالعلم النافع، يصرف عنك ما تجد بإذنه سبحانه وتعالى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة