الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالسائلة الكريمة طرحت في استفتائها مسألتين:
الأولى في حكم الاشتراط على الخاطب، فالأصل في الشروط في عقد النكاح الجواز والصحة واللزوم، لحديث عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج. متفق عليه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: إذا كان حسن الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده، ومقصوده هو الوفاء به، وإذا كان الشرع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.
وقال في موضع آخر منها: تصح الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود. اهـ.
إلا أن أهل العلم اشترطوا لصحة الشرط في عقد النكاح ثلاثة شروط هي:
1ـ ألا يخالف مقتضى العقد، لئلا يعود على غرضه بالنقض.
2ـ ألا يخالف الشرع، ففي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: أما بعد، فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق. وهذا لفظ مسلم.
3ـ أن يكون فيه مصلحة للعاقد، قال البهوتي في الكشاف على الإقناع: الثاني: شرط ما تنتفع به المرأة مما لا ينافي العقد كزيادة معلومة في مهرها أو نفقتها الواجبة أشار إليه في الاختيارات، أو اشتراط كون مهرها من نقد معين أو تشترط عليه أن لا ينقلها من دارها أو بلدها، أو أن لا يسافر بها، أو أن لا يفرق بينها وبين أبويها، أو أن لا يفرق بينها وبين أولادها، أو على أن ترضع ولدها الصغير...
وهذه الشروط الثلاثة التي ذكرتها السائلة تتوفر فيها الشروط الثلاثة التي يصح بها الشرط ويعتبر، فهي بذلك شروط صحيحة لازمة، إلا أن يكون السفر واجبا كسفر الحج، أو تكون الدراسة العليا تتوقف على محرم كسفر بغير محرم، فلا تدخل هذه الحالات ضمن الشروط المعتبرة لاختلال الشرط الثاني فيها، ومعنى كونها صحيحة لازمة ترتب أثرها وهو ثبوت خيار الفسخ عند الإخلال بها، قال البهوتي بعد الكلام المتقدم: فهذا النوع صحيح لازم للزوجة بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه، لما روى الأثرم بإسناده: أن رجلا تزوج امرأة وشرط لها دارها ثم أراد نقلها فخاصموه إلى عمر، فقال: لها شرطها، فقال الرجل: إذن يطلقننا، فقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط ـ ولأنه شرط لها منفعة مقصودة لا تمنع المقصود من النكاح فكان لازما.
المسألة الثانية في أثر الاشتراط:
1ـ على الزوج: فيتسحب له الوفاء به على الصحيح من أقوال أهل العلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم. رواه البخاري تعليقا جازما، وصححه الترمذي.
وهذا القول هو المعتمد عند متأخري الحنابلة ـ خلافا لما اختاره الموفق في المغني ـ قال في الكشاف على الإقناع: ولا يجب الوفاء به ـ أي بالشرط الصحيح ـ بل يسن الوفاء به، لأنه لو وجب لأجبر الزوج عليه ولم يجبره عمر، بل قال لها شرطها.
وهو مذهب الجماهير كما قرره الباجي في المنتقى: قال ابن حبيب: وقد استحب مالك وغيره من أهل العلم أن يفي لها بما شرط، وأن ذلك غير لازم للزوج، وعليه جمهور الفقهاء.
وإنما لم يوجبوه، لثبوت خيار الفسخ للزوجة وهو الأثر الثاني:
2ـ على الزوجة:
فإذا لم يف الزوج بالشروط فلها الفسخ، فترفع أمرها إلى القاضي فيتولى فسخ نكاحها بموجب خيار الشرط، ما لم يظهر منها ما يدل على تنازلها عن الشرط.
أما الفسخ بخلف الشرط: فقد قرره البهوتي بقوله في المصدر السابق له: فإن لم يفعل ـ أي لم يف الزوج لها بشرطها ـ فلها الفسخ، لما تقدم عن عمر، ولأنه شرط لازم في عقد فثبت حق الفسخ بترك الوفاء به كالرهن والضمين في البيع، وحيث قلنا تفسخ فبفعله ما شرط أن لا يفعله، لا بعزمه عليه، خلافا للقاضي، لأن العزم على الشيء ليس كفعله.
وأما تولي القاضي الفسخ فقرره الرحيباني في المطالب على الغاية بقوله: ولا يصح فسخ في خيار عيب وخيار شرط بلا حكم حاكم، لأنه فسخ مجتهد فيه فافتقر إليه كالفسخ للعنة والإعسار بالنفقة، بخلاف خيار المعتقة تحت عبد، لأنه متفق عليه.
وأما اعتبار سقوط الشرط بتنازلها عنه: فقد فصل الكلام عليه البهوتي في الكشاف أيضا بقوله: فلا يسقط الخيار إلا بما يدل على الرضا منها من قول أو تمكين منها مع العلم بفعله ما شرطت أن لا يفعله، فإن لم تعلم بعدم الوفاء ومكنته لم يسقط خيارها لأن موجبه لم يثبت فلا يكون له أثر كالمسقط لشفعته قبل البيع.
والله أعلم.