السؤال
كتبت للشيخ بروين: وماذا عن المصور نفسه؟ كيف تنتفي العلة وهي مضاهاة خلق الله؟ وهل تنتفي بمجرد أن لا يتسرب إلى نفسه الشعور بأنه يضاهي ويشابه ما خلق الله؟ وحسب علمي فإن هذه العلة لازمة مع التصوير ولا تنتفي إلا إذا ترك تصوير كل ما فيه روح, وذلك لقول ابن عباس للمصور: إذا كنت ولابد فاعلا فصور ما لا روح فيه كالشجر والحجر والأرض والبحار أو رسم الجسد بلا رأس ـ فرد بالآتي: حال المصور إذا كانت العلة هي مضاهاة خلق الله كحال الإمام المصلي الذي قد يتسرب إلى قلبه الرياء والكبرياء، وكذلك العالم المصنف للكتب أو المتبحر في العلم قد يتسرب إلى نفسه الغرور والعجب، ومع احتمال تسرب هذه المنهيات هل نمنع إظهار العلم أو نمتنع عن الصلاة بالناس خشية حصول هذه المتعلقات بالنفس البشرية؟ الجواب بلا ريب سيكون بالنفي، لأن الله تعالى أمرنا بتزكية النفس من هذه الخواطر في قوله تعالى: قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ـ ويقول العلماء إن توارد هذه الخواطر أمر عادي، وعلاجه يكون بتحقيق الإخلاص لله تعالى، لا بالانصراف عن العمل، بل عدوا الاستجابة بالركون عن العمل خشية الرياء والتكبر هو الرياء نفسه واستجابة للشيطان ـ أخزاه الله ـ وعليه إذا تخلص المصور من علة المضاهاة، بل بالعكس إذا جعل من رسمه وتصويره برهانا على إبداع الله تعالى وجميل صنعه ودقة تصويره في خلقه كما أخبرني بعض المصورين بذلك، حيث يدركون عند الرسم مدى عظمة الله تعالى في صنعه وجليل خلقه، وإنما هم يرسمون لحظة من لحظات خلق الله بإضاءة معينة في صورة معينة يدركون فيها مدى قصورهم عن تصوير الحقيقة المشاهدة كما هي، نقول في هذه الحالة انقلبت الحال، فأضحى المصور يزداد إيمانه بالله تعالى من خلال تدبره في عظمة صنع الله وإداركه جماليات خلقه كما يزداد العالم بالطبيعة أو بالعلوم الإنسانية إن أخلص في علمه وبحثه وتقصيه في خلق الله تعالى إيمانا وإجلالا لهذا الصانع العظيم، فعلة المضاهاة ليست لازمة كما يتصور، لأن المضاهاة قد تتحقق حتى مع رسم الشجر والحجر، وما كانت نصيحة ابن عباس لذلك الرجل إنما خرجت منه مخرج الغالب المعتاد، لأن الناس عادة لا يدركون بأنظارهم التفاوت في أشكال الشجر والحجر إلخ، فهي كالوحدة الواحدة بمعنى الجنس الواحد في التصور الإنساني، أما صور الأحياء كالإنسان، فالغالب أن يظهر فيها التفاوت في الصورة والشكل والطابع وبالتالي تظهر قدرة المصور على إمكانيته الفنية فقد يتسرب بعد إعجاب الناس برسمه وفنه الشعور بالعجب أو المضاهاة أو نحوها، ومثل هذه المشاعر قد تحصل أيضا لقراء القرآن الكريم ذوي الأصوات الجميلة، ولذلك قال عليه السلام: أكثر منافقي أمتي قراؤها ـ أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فنرجو تبيين هل يجوز القياس بين الشعور بالمضاهاة وبين الإمام الذي يشعر بالكبرياء؟ أم هذا خلط وليس قياسا؟ ومتى يكون العمل محرما شرعا؟ وهل على حسب النية فقط؟ يعني إذا صلحت النية صلح العمل وإن فسدت فسد؟.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد وردت نصوص كثيرة في الزجر عن التصوير، ووعيد المصورين بإطلاق، دون ذكر المضاهاة، من ذلك حديث عائشة: أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت، أو فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله، فماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتها لك، تقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، ثم قال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة. متفق عليه.
وحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم. متفق عليه.
وحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون. متفق عليه.
وفي لفظ لمسلم: إن من أشد أهل النار يوم القيامة عذابا المصورون.
وحديث ابن عباس أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس بنافخ. متفق عليه.
وأما ذكر مضاهاة الخلق: فقد جاء في حديث عائشة، أنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: يا عائشة أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة، الذين يضاهون بخلق الله، قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. متفق عليه.
وفي لفظ لمسلم: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة، الذين يشبهون بخلق الله.
والظاهر من هذا الحديث أن التصوير في نفسه فيه مضاهاة ومشابهة لخلق الله، وليس فيه ما يدل على اعتبار قصد المضاهاة، وعلى فرض أن المراد بهذا الحديث هو قصد المضاهاة، فيكون ذلك معلقا بهذا الوعيد بخصوصه ـ وهو أنه أشد الناس عذابا ـ لا أن حرمة التصوير معلقة بقصد المضاهاة، جاء في شرح صحيح البخاري لابن بطال: قال الطبري: إن قال قائل: ما أنت قائل فيمن صور صورة وهو لله موحد ولنبيه عليه السلام مصدق أهو اشد عذابا أم فرعون وآله؟ فإن قلت: من صور صورة، قيل: قد قال الله خلاف ذلك: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ـ قيل: ليس في خبر ابن مسعود خلاف للتنزيل بل هو له مصدق، وذلك أن المصور الذي أخبر النبي عليه السلام أنه له أشد العذاب هو الذي وصفه النبي عليه السلام في حديث عائشة بقوله: الذين يضاهون خلق الله ـ قال المؤلف: المتكلف من ذلك مضاهاة ما صوره ربه في خلقه أعظم جرما من فرعون وآله، لأن فرعون كان كفره بقوله: أنا ربكم الأعلى ـ من غير ادعاء منه أنه يخلق ولا محالة منه أن ينشئ خلقا يكون كخلقه تعالى شبيها ونظيرا، والمصور المضاهي بتصويره ذلك منطو على تمثيله نفسه بخالقه، فلا خلق أعظم كفرا منه فهو بذلك أشدهم عذابا وأعظم عقابا، وأما من صور صورة غير مضاه ما خلق ربه، وإن كان بفعله مخطئا، فغير داخل في معنى من ضاهى ربه بتصويره، فإن قيل: وما الوجه الذي تجعله به مخطئا إذا لم يكن في تصويره لربه مضاهيا؟ قيل: لاتهامه نفسه عند من عاين تصويره أنه ممن قصد بذلك المضاهاة لربه، إذ كان الفعل الذي هو دليل على المضاهاة منه ظاهرا، والاعتقاد الذي هو خلاف اعتقاد المضاهي باطن لا يصل إلى علمه راءوه. اهـ.
وأما سؤالك: متى يكون العمل محرم شرعا فقط على حسب النية؟ فجوابه: أن هذا في الأعمال التي ليست محرمة في نفسها كالأمور المباحة أو المشروعة قد يطرأ عليها التحريم لنية فاعلها، كمن صلى رياء ففعله محرم لنيته، وهكذا، وأما الأمور المحرمات في أصلها، فنية صاحبها مهما كانت لا تخرجها عن كونها محرمة، وإنما النية قد تزيد الحرمة وتضاعف الإثم فقياس الشعور بالمضاهاة على الإمام الذي يشعر بالكبرياء غير صحيح بإطلاق، لأن التصوير محرم في أصله دون اعتبار قصد فاعله، وأما الصلاة فليست محرمة في نفسها، وإنما تحرم إذا صاحبتها نية محرمة، وراجع لمزيد فائدة في موضوع التصوير الفتوى رقم: 231577.
والله أعلم.