مسألة فعل المعصية مع نية التوبة

0 1473

السؤال

السؤال الأول : من خلال مشاهدتنا لبعض القنوات الفضائية، واستماعنا لبعض الفتاوى لبعض أهل العلم، فإننا نسمع بعض الإجابات التي تجعلنا في حيرة من أمرنا، فتجعلني أحيانا أنني أفكر في القيام بنفس العمل الذي في أصله وعند بدايته حرام بين، ثم بعد مدة من الزمن يصبح ذلك العمل مباحا وحلالا، عندما يصاحبه الندم على ما فات والعزم على التوبة إن شاء الله تعالى، كما هو الحال في السؤال التالي : والذي كان على الهواء مباشرة بأن رجلا تحصل على شهادة علمية عالية فقد ذكر بأنها دكتوراه . بالرشوة أي تم شراؤها بالمال وتحصل بها صاحبها على عمل يتقاضى به مرتبا شهريا من الدولة، وبعد عقد من الزمان وربما أكثر وربما أقل ندم الرجل على هذا العمل الذي قام به وهو شراء الشهادة العلمية بالمال والتي تحصل بسبب هذه الشهادة على العمل الذي يمارسه الآن ، وهو الان حسب ما ذكر في سؤاله بأنه ندم على الشراء، وأنه مخلص في عمله ويؤدي في عمله بكل إخلاص ،ثم سأل الشيخ فماذا أصنع الآن ؟ فأجابه الشيخ بقوله ما دمت أنك قد ندمت على ما قمت به من عمل وأنت الآن تؤدي عملك بالشكل المطلوب، وتستطيع الاستمرار في عملك، وحسنت من وضعك وتحصلت على دورات في مجال عملك، فعملك الآن لا شيء فيه - إن شاء الله - وحلال عليك ما تتقاضاه من مرتب. والله أعلا وأعلم .
شيخنا الفاضل أنا الآن فرصة الحصول على عمل أمامي غير ممكنة إلا إذا قمت بنفس الطريقة المذكورة في السؤال بأنني سأقوم بشراء شهادة معينة لكي أتحصل بها على عمل، وإنني على علم تام بأنني سأحسن العمل الذي سأتقدم للحصول عليه، وسواء من حيث الأداء أو من حيث الإخلاص فيه. وأنني بعد حصولي على العمل المطلوب إن قدر الله لي البقاء سنعقد العزم على عدم تكرار لمثل هذا العمل بتاتا ونعزم على التوبة بإذن الله . فهل إذا بقيت على قيد الحياة لسنوات طوال يصبح عملي هذا حلالا مباحا ؟ فالذي جعلني لم أفكر في هذا العمل القاعدة المتعارف عليها: ما بني على باطل فهو باطل، وما كان أصله حراما فهو حرام . أفتونا بارك الله فيكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فلا ريب في أن هذه حيلة شيطانية بأن يقدم المرء على الحرام الصريح - وهو تزوير الشهادة - مع نية التوبة، فارتكاب المعصية مع نية التوبة لا يشفع لصاحبه ، وقد يعاقب بأن يحال بينه وبين التوبة ، وما يدريك لعل منيتك تدركك قبل نيل مرادك، فلا تجني غير الإثم والحوب .

واعلم أن الله لم يجعل معصيته سببا لخير قط - كما قال ابن القيم - ، ثم هل يبلغ بمسلم سوء الظن بربه أنه لن يرزق إلا باجتراح الحرام ؟ فعليك بإحسان الظن بالله ، فيمينه سبحانه ملأى لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، وهو يستحي أن يرد يدي عبده صفرا ، فوجه قلبك إليه أن يغنيك ويكفيك بالحلال ، وثق ثقة تامة أنك إن تركت المحرم ابتغاء رضوان لله فسيعوضك الله خيرا لك منه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لن تدع شيئا اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيرا منه. أخرجه أحمد وصححه الألباني .

وليس في الإجابة المذكورة ما يسوغ ارتكاب الحرام ، لكن هوى النفوس قد يجعلها تضل وتنحرف بالحق الجلي ، فتتأوله وتحرفه بما يوفق هواها . فالقرآن الكريم أعظم هدى ، ومع هذا يضل به أقوام .

ولتعلم أن مسألة حل راتب العامل بشهادة مزورة إذا تاب وأتقن العمل محل احتمال ، لأن الراتب في كثير من الأحيان يكون مبنيا على الشهادة ، وليس على مجرد القيام بالعمل ، وحتى إن لم يكن للشهادة تأثير في الراتب فليس ببعيد أن يقال بوجوب إخبار جهة العمل بأن الشهادة مزورة .

والظاهر أن محل الفتوى المنقولة أصلا هو في استمرار العامل في الوظيفة التي كان يعمل بها ، وأما التقديم لوظيفة أخرى بشهادة مزورة فهو ممنوع جزما .

وقد أفتى بعض العلماء فيمن غش في دراسته بمثل الإجابة التي نقلتها في السؤال ، فقد سئل الشيخ ابن باز : رجل يعمل بشهادة علمية، وقد غش في امتحانات هذه الشهادة، وهو الآن يحسن هذا العمل بشهادة مرؤوسيه، فما حكم راتبه هل هو حلال أم حرام؟ فأجاب : لا حرج إن شاء الله، عليه التوبة إلى الله مما جرى من الغش، وهو إذا كان قائما بالعمل كما ينبغي فلا حرج عليه من جهة كسبه؛ لكنه أخطأ في الغش السابق وعليه التوبة إلى الله من ذلك .اهـ.

بينما لم يجزم الشيخ ابن عثيمين بهذا الحكم ، وكان عنده محل تردد ، فقال : النجاح بالغش إذا كان في الشهادة الأخيرة التي بني عليها الراتب، فالذي أرى أنه لا يستحق الراتب؛ لأن المبني على الباطل باطل، وعلى هذا فيعيد الاختبار مرة ثانية، اللهم إلا إذا كانت الوظيفة من مختصات الدروس التي نجح فيها بدون غش فأرجو ألا يكون عليه بأس، ولكن عليه التوبة. مثال ذلك: لو توظف وظيفة محاسبة، وكان في مادة المحاسبة قد نجح، وغش في غيرها، فأرجو أن تكون وظيفته حلالا؛ لأنه يجيد العمل الخاص بها ولكن عليه أن يتوب إلى الله مما صنع من الغش .اهـ.

وقال : إذا كان الغش في آخر شيء في الشهادة، فهذا يعني: أن الشهادة الآن مزيفة، والوظيفة مبنية على هذه الشهادة، فيبقى المال الذي يأخذه فيه شبهة. لكن أقول: إذا تاب إلى الله توبة نصوحا وكانت المادة التي غش فيها ليس لها صلة بالعمل الذي يقوم به، فنرجو أن يكون راتبه حلالا. مثل أن يكون غشه في مادة لا صلة لها بالوظيفة التي توظف فيها، كأن يكون في اللغة الإنجليزية مثلا، والوظيفة التي هو فيها لا تحتاج إلى اللغة الإنجليزية ولا صلة لها بها، فإننا نرجو إذا تاب أن يكون الراتب الذي يأخذه حلالا .اهـ. من اللقاء الشهري .

وسئل الشيخ : أرجو التحذير من قضية ما أشرتم إليه أنه إذا غش في الأولى والثانية فمن الممكن أن يسمع هذا الكلام بعض ضعاف الإيمان فيقول: إذا: أغش ثم أتوب؟

فأجاب : هذا وقع في قلبي أنني إذا قلت: الغش في الأولى والثانية إذا كانت الشهادة نزيهة فأرجو أن يكون هذا نافعا له، وتجدون أن كلمة (أرجو) ليس هناك جزم أن يسلم إذا غش في الأولى والثانية، وأنا أكرر أن الغش حرام في الأولى وفي الثانية، لكن هذا تلميذ وقع منه الأمر، لكنه في الشهادة لم يغش وجاء يسأل وهو تائب إلى الله: هل يحل لي هذا الراتب أم لا؟ ولسنا نهون من الغش لا في الأولى ولا في الثانية ولا في الثالثة، لكن هناك فرق بين إنسان ندم وجاء تائبا ويريد أن يحلل الراتب الذي بني على الشهادة وهي شهادة نزيهة، فنقول: نرجو ألا يكون عليه حرج فيما يأخذه من الراتب .اهـ. من اللقاء الشهري .

وقال : جوابي على هذا أني متوقف في هذه المسألة، وذلك لأنه إنما استحق الراتب على قدر الشهادة، والحقيقة أن هذه الشهادة مزيفة .اهـ. من فتاوى نور على الدرب .

وقال : لا يحل للطالب أن يغش في أثناء الامتحانات لأن الغش من كبائر الذنوب لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من غش فليس منا) ولأنه يترتب على غشه أن ينجح أو أن يعطى ورقة النجاح وهو غير جدير بذلك ثم يتولى مناصب في الدولة لا تصلح إلا لمن يحمل الشهادة وإذا كانت هذه الشهادة مبنية على غش فإنه يخشى أن يكون ما يأخذه من الرواتب حرام عليه لأنه يأخذه وهو غير مستحق له حيث إنه لم يصل في الحقيقة إلى الدرجة التي تؤهله لهذا المنصب فيكون أخذه للراتب من أكل المال بالباطل .اهـ. من فتاوى نور على الدرب .

ومن المعلوم أن الشهادة المزورة أمرها أعظم وأشد من الشهادة التي فيها غش في امتحاناتها .

وراجع الفتوى رقم : 34759 .

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة