للعبد أحد عشر مشهدًا فيما يصيبه من أذى الخلق، وجنايتهم عليه

0 232

السؤال

في مجتمع الجامعة أتأذى كثيرا من ‏بعض البنات، فهن يستهزئن بي، ‏ويسخرن مني بالضحك،‏ فكيف أتعامل معهن؟ مع العلم أني لم ‏أعد أطيق تحملهن أبدا؛ وإنما أصبر، ‏وأذكر نفسي دائما بقوله تعالى‏‏:(وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا ‏سلاما) فهذه الآية تؤثر في كثيرا ‏فأتبعها، ودائما أتذكر صبر الرسول ‏محمد عليه الصلاة والسلام، عندما ‏كان المشركون يؤذونه، وصبره ‏عليهم وتحمله لأذاهم، ولكني أتألم ‏إذا رأيتهن يعاملنني باستهزاء، ‏وسخرية، وأنا صامدة أمامهن، ولم ‏أرد عليهن،‏ فماذا أفعل؟ وهل إيذاء الناس للشخص ابتلاء من ‏الله، بمعنى أن الله إذا ابتلى شخصا ‏سلط عليه أشخاصا آخرين؛ لأن الخلق ‏مجرد آلة يتصرف فيهم كيف يشاء ‏سبحانه؟ مع العلم أني أتجنبهن، ولا ‏أؤذي أحدا، وملتزمة -ولله الحمد-؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فنسأل الله سبحانه أن يثبتنا وإياك على دينه، وأن يجعل ما تلاقينه من أذى، تكفيرا للسيئات، ورفعة للدرجات -بإذنه سبحانه وتعالى- وقد أحسنت في صبرك على أذى الناس، وامتثالك للآية الكريمة. 

 واعلمي أن العفو، والإعراض عن أهل الظلم، والأذى خير من الانتقام، فنوصيك بالثبات على ما أنت عليه، والصبر على أذى الخلق ابتغاء وجه الخالق عز وجل، وانظري للفائدة الفتاوى: 38240، 41222، 51845.

ومجالات الابتلاء كثيرة ومتنوعة، ومنها أذى الناس في معاملاتهم، فكل ما في الكون إنما يقع بإذن الله ومشيئته.

ويحسن بنا أن نورد هنا كلاما نفيسا لابن القيم يتعلق بما سبق.

قال -رحمه الله-: للعبد أحد عشر مشهدا فيما يصيبه من أذى الخلق، وجنايتهم عليه:

أحدها : مشهد القدر، وأن ما جرى عليه بمشيئة الله، وقضائه، وقدره.

المشهد الثاني: مشهد الصبر، فيشهده، ويشهد وجوبه، وحسن عاقبته، وجزاء أهله، وما يترتب عليه من الغبطة والسرور، ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام، فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة، وعلم أنه إن لم يصبر اختيارا على هذا، وهو محمود، صبر اضطرارا على أكبر منه، وهو مذموم.

 المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح، والحلم، فإنه متى شهد ذلك، وفضله، وحلاوته، وعزته لم يعدل عنه إلا لعشى في بصيرته؛ فإنه ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم بالتجربة، والوجود، وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل، هذا وفي الصفح والعفو، والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة، وشرف النفس وعزها، ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة، والانتقام.

المشهد الرابع: مشهد الرضى، وهو فوق مشهد العفو والصفح، وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله، إذا كان ما أصيب به في الله، وفي مرضاته، ومحبته رضيت بما نالها في الله.

المشهد الخامس: مشهد الإحسان، وهو أرفع مما قبله، وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه، وأنه قد أهدى إليه حسناته، ومحاها من صحيفته، وأثبتها في صحيفة من أساء إليه، فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه، بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك.

المشهد السادس: مشهد السلامة، وبرد القلب ... وهو أن لا يشتغل قلبه، وسره بما ناله من الأذى، وطلب الوصول إلى درك ثأره، وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته، وبرده، وخلوه منه أنفع له، وألذ، وأطيب، وأعون على مصالحه؛ فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده، وخير له منه.

المشهد السابع: مشهد الأمن، فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام أمن ما هو شر من ذلك، وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد، فإن ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوه، ولو كان حقيرا.

المشهد الثامن: مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وإقامة دين الله، وإعلاء كلماته، وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه، وماله، وعرضه بأعظم الثمن، فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاه، ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع، فإنه قد وجب أجره على الله.. فمن قام لله حتى أوذي في الله: حرم الله عليه الانتقام، كما قال لقمان لابنه: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور لقمان : 17 .

المشهد التاسع: مشهد النعمة، وذلك من وجوه:

أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوما، يترقب النصر، ولم يجعله ظالما يترقب المقت.

ومنها: أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه، فإنه ما أصاب المؤمن هم، ولا غم، ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه، فذلك في الحقيقة دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب ...

ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها، فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر ...

ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة ...

هذا وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال، والنفس، والعرض.

المشهد العاشر: مشهد الأسوة، وهو مشهد شريف لطيف جدا؛ فإن العاقل اللبيب، يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه، وخاصته من خلقه، فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس، وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور، ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم، وشأن نبينا وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله.

المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد، وهو أجل المشاهد وأرفعها، فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله، والإخلاص له، ومعاملته، وإيثار مرضاته، والتقرب إليه، وقرة العين به، والأنس به، واطمأن إليه، وسكن إليه، واشتاق إلى لقائه، واتخذه وليا دون من سواه بحيث فوض إليه أموره كلها، ورضي به، وبأقضيته، وفنى بحبه، وخوفه، ورجائه، وذكره، والتوكل عليه عن كل ما سواه فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة، فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة. من مدارج السالكين مع الحذف.

وانظري الفتويين التاليتين: 5249، 13270.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة