السؤال
هل هناك خلاف بين أهل السنة في أن الشيء المعين الذي يقوم بالله من حروف ومعان كلامه، وصفاته، ويختص به، ولا يشاركه أحد فيه؟ وهل ذكر شيخ الإسلام في نقض التأسيس، أو مجموع الفتاوى في أي موضع من مواضع الكتابين وجود خلاف في المسألة؟
هل هناك خلاف بين أهل السنة في أن الشيء المعين الذي يقوم بالله من حروف ومعان كلامه، وصفاته، ويختص به، ولا يشاركه أحد فيه؟ وهل ذكر شيخ الإسلام في نقض التأسيس، أو مجموع الفتاوى في أي موضع من مواضع الكتابين وجود خلاف في المسألة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أكثر السائل من التعرض لمثل هذه المسائل، وقد سبق أن أجبناه عن بعضها، كما في الفتوى التالية أرقامها: 234148، 238036، 240880.
ولا ندري ما أصل الإشكال عنده حتى نبينه له!
وعلى أية حال: فأصل سؤاله يتبين جوابه بالتفريق بين أنواع ما يضاف إلى الله تعالى، وبين مذهب أهل السنة، ومذهب طائفتين متناقضتين من أهل البدع في هذا الباب، وقد أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، فقال: المضافات إلى الله نوعان:
أعيان، وصفات: فالصفات إذا أضيفت إليه، كالعلم، والقدرة، والكلام، والحياة، والرضا، والغضب، ونحو ذلك، دلت الإضافة على أنها إضافة وصف له، قائم به ليست مخلوقة؛ لأن الصفة لا تقوم بنفسها، فلا بد لها من موصوف تقوم به، فإذا أضيفت إليه علم أنها صفة له..
وأما الأعيان إذا أضيفت إلى الله تعالى، فإما أن تضاف بالجهة العامة التي يشترك فيها المخلوق، مثل كونها مخلوقة، ومملوكة له، ومقدورة، ونحو ذلك، فهذه إضافة عامة مشتركة، كقوله: هذا خلق الله {لقمان: 11} وقد يضاف لمعنى يختص بها يميز به المضاف عن غيره، مثل: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله، وروح الله، فمن المعلوم اختصاص ناقة صالح بما تميزت به عن سائر النياق، وكذلك اختصاص الكعبة، واختصاص العبد الصالح الذي عبد الله، وأطاع أمره، وكذلك الروح المقدسة التي امتازت بما فارقت به غيرها من الأرواح... اهـ.
ثم بعد ذلك بين أن هذا التفريق مما تميز به أهل السنة عن طوائف أهل البدع المختلفة، فقال: وهذا الأصل الذي ذكرناه من الفرق فيما يضاف إلى الله بين صفاته، وبين مملوكاته، أصل عظيم ضل فيه كثير من أهل الأرض من أهل الملل كلهم، فإن كتب الأنبياء -التوراة، والإنجيل، والقرآن، وغيرها- أضافت إلى الله أشياء على هذا الوجه، وأشياء على هذا الوجه، فاختلف الناس في هذه الإضافة: فقالت المعطلة نفاة الصفات من أهل الملل: إن الجميع إضافة ملك، وليس لله حياة قائمة به، ولا علم قائم به، ولا قدرة قائمة به، ولا كلام قائم به، ولا حب، ولا بغض، ولا غضب، ولا رضى، بل جميع ذلك مخلوق من مخلوقاته، وهذا أول ما ابتدعته في الإسلام الجهمية، وإنما ابتدعوه بعد انقراض عصر الصحابة، وأكابر التابعين لهم بإحسان... وقالت الحلولية: بل ما يضاف إلى الله قد يكون هو صفة له، وإن كان بائنا عنه، بل قالوا: هو قديم أزلي، فقالوا: روح الله قديمة أزلية صفة لله، حتى قال كثير منهم: إن أرواح بني آدم قديمة أزلية، وصفة لله، وقالوا: إن ما يسمعه الناس من أصوات القراء، ومداد المصاحف قديم أزلي، وهو صفة لله، وقال حذاق هؤلاء: بل غضبه، ورضاه، وحبه، وبغضه، وإرادته لما يخلقه قديم أزلي، وهو صفة الله، وكلامه الذي سمعه موسى قديم أزلي، وأنه لم يزل راضيا محبا لمن علم أنه يطيعه قبل أن يخلق، ولم يزل غضبانا ساخطا على من علم أنه يكفر قبل أن يخلق، ولم يزل، ولا يزال قائلا: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، قبل أن يوجدوا، وبعد موتهم، ولم يزل، ولا يزال يقول: يا معشر الجن والإنس قبل أن يخلقوا، وبعد ما يدخلون الجنة والنار، وأما سلف المسلمين من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين المشهورون بالإمامة فيهم، كالأربعة، وغيرهم، وأهل العلم بالكتاب والسنة، فيفرقون بين مملوكاته وبين صفاته، فيعلمون أن العباد مخلوقون، وصفات العباد مخلوقة، وأجسادهم، وأرواحهم، وكلامهم، وأصواتهم بالكتب الإلهية، وغيرها، ومدادهم، وأوراقهم، والملائكة، والأنبياء، وغيرها، ويعلمون أن صفات الله القائمة به ليست مخلوقة، كعلمه، وقدرته، وكلامه، وإرادته، وحياته، وسمعه، وبصره، ورضاه، وغضبه، وحبه، وبغضه، بل هو موصوف بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتأولون كلام الله بغير ما أراده، ولا يمثلون صفات الخالق بصفات المخلوق، بل يعلمون أن الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، بل هو موصوف بصفات الكمال، منزه عن النقائص، وليس له مثل في شيء من صفاته، ويقولون: إنه لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال، لم يزل متكلما إذا شاء بمشيئته وقدرته، ولم يزل عالما، ولم يزل قادرا، ولم يزل حيا سمعيا بصيرا، ولم يزل مريدا، فكل كمال لا نقص فيه يمكن اتصافه به، فهو موصوف به، لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال والإكرام سبحانه وتعالى. اهـ.
وجاء هذا التفريق في عدة كتب لشيخ الإسلام غير المثبتة في مجموع فتاواه، ومنها: شرح العقيدة الأصفهانية، وبيان تلبيس الجهمية، وجاء نحو ذلك أيضا في كلام ابن القيم، كما في مختصر الصواعق المرسلة: المضاف إليه سبحانه نوعان:
ـ أحدهما: أعيان قائمة بنفسها، كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وعبده، فهذا إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة اختصاص وتشريف.
ـ الثاني: إضافة صفة إلى موصوفها، كسمعه وبصره وعلمه وحياته وقدرته وكلامه ووجهه ويديه ومشيئته ورضاه وغضبه، فهذا يمتنع أن يكون المضاف فيه مخلوقا منفصلا، بل هو صفة قائمة به سبحانه.
إذا عرف هذا فهكذا حكم المجرور بمن، فقوله: وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه {الجاثية: 13} لا يقتضي أن تكون أوصافا له قائمة به، وقوله: ولكن حق القول مني {السجدة: 13} وقوله: تنزيل من حكيم حميد {فصلت: 42} يقتضي أن يكون هو المتكلم به، وأنه منه بدأ وإليه يعود، ولبست المعتزلة ولم يهتدوا إلى هذا الفرقان، وجعلوا الجميع بابا واحدا، وقابلهم طائفة الاتحادية، وجعلوا الجميع منه بعض التبعيض، والجزئية، ولم يهتد الطائفتان للفرق. اهـ.
والله أعلم.